عادت الجبهات السياسية ال​لبنان​ية لتشتعل من جديد بعد هدوء نسبي حتّمه ​تشكيل الحكومة​ ​الجديدة​، و"تمرير" خطّة ​الكهرباء​ في مجلسي الوزراء والنواب. اما سبب اشتعال هذه الجبهات فهو مشروع ​الموازنة​ الذي بات على كل شفة ولسان في لبنان، والذي تراقبه أعين اللبنانيين من جهة والمسؤولين في الخارج من جهة ثانية. اما الموازنة بحدّ ذاتها، فاكتسبت اهميتها من كونها "الانجاز" الجديد الذي يرغب الجميع بإضافته الى سجلهم بدءاً من ​رئيس الجمهورية​ مروراً برئيسي مجلسي الوزراء والنواب، وصولاً الى الوزراء والنواب، نظراً الى اهمية هذه الموازنة تحديداً كونها ستنعكس على باقي السنوات المتبقيّة من عهد ​الرئيس ميشال عون​، وتلك التي ستحدّد مسار لبنان الاقتصادي والمالي للمرحلة المقبلة.

ولكن الخلاف، للاسف، لا يكمن في القدرة على ضبط الهدر و​الفساد​ والتسابق على قمع المخالفات، بل فقط على تحديد بعض "مظاهر التقشّف" التي يرغب المسؤولون ​اللبنانيون​ في ان تكون كافية لركوب قطار "سيدر" والحصول على الاموال الموعودة، وبالتالي تجنّب الكأس الذي ذاقته ​اليونان​ منذ سنوات قليلة ولا تزال تستطعم بمرارته حتى اليوم. ولكن المؤلم في الموضوع انّ الخلاف يتركّز على طريقة لتأمين المبالغ المطلوب اقتطاعها من الموازنة، وليس ايجاد حلول جذريّة واتخاذ تدابير رداعة بشكل حاسم لكسب اموال من الدولة بطريقة غر شرعيّة او عبر "الاحتيال" و"الالتفاف" على القوانين الموضوعة، او عبر التزوير وفرض قوّة امر الواقع في بعض الاحيان. وما يقلق في هذا السياق، هو ان هذه التدابير، ان نجحت دون مشاكل سياسيّة اساسيّة، ستبقى ناقصة لانّها ستكون محدودة ولفترة زمنيّة قصيرة، بحيث يمكن ان تعود فور ان تنال الموازنة ​الضوء​ الاخضر المحلّي والدولّي، فنشهد تجدّد الصعوبات والمشاكل وفتح ابواب الهدر والفساد مجدداً بعد اغلاقها بشكل قسري ولمدة قصيرة.

ولا يتوقّع احد ان تثير الخلافات السياسيّة المحليّة حالياً، ايّ مشاكل طويلة الامد بين الفئات اللبنانية، وان كل التهويل والكلام العالي السقف هو لايهام اللبنانيين ان هذه الاجراءات فقط هي المطلوبة، وليس البحث عن حلول دائمة تنقل البلد من ضفة الى اخرى، بل العودة الى اعتماد الطريقة اللبنانيّة لجهة "تدوير الزوايا" وارضاء التيارات والاحزاب والاطراف السياسيّة بدل ارضاء المواطن والتفتيش عن السبل الكفيلة باعادة ثقته بالدولة وبالمؤسسات، وبالاجراءات التي سيتمّ اعتمادها للنهوض بالبلد.

كالعادة، ها هو لبنان يفرّط بفرصة ذهبيّة لاصلاح وضعه، ان على الصعيد السياسي او على الصعيد الاقتصادي والمالي، فالمخاطر التي تهدده جدّية وخطيرة، وهي كفيلة بأن توحّد الجميع في ايّ بلد يتعرض لازمة مماثلة، فتسقط عندها مصالح الاشخاص والاحزاب، وتبقى مصلحة الوطن والمواطن. هذا الكلام لا يعني انّ اللوم يقع فقط على المسؤولين، بل على اللبنانيين انفسهم الذين يغرقون في سبات عميق لم ينجح في ايقاظهم ايّ تهديد او وعيد بأن الازمة التي طرقت ابوابهم ليست عابرة، بل اساسيّة ووجوديّة، دون ان يتّعظ اللبنانيون.

يختلف اليوم السياسيّون على بعض العناوين الصغيرة لموازنة كبيرة ويرى الكثيرون انها ستكون نقطة ارتكاز لموازنات لاحقة، ولكن هذا الخلاف يبقى محكوماً بسقف هذه الموازنة الذي يحدده السياسيون انفسهم بطريقة ترضيهم اولاً ثم يتم بعدها التطلّع الى مصلحة البلد وسكّانه. وعليه، لا يجب انتظار الكثير من الحلول الناجعة، بل مجرد حلول موقّتة تسمح بالعودة الى التنفّس الطبيعي لفترة محدودة، قبل ان نعود الى مواجهة المشاكل نفسها الّتي لم يتم ​القضاء​ عليها، بل فقط "طمسها" لمدة محدودة من اجل "تنفيس" الاحتقان الداخلي والايحاء بأن "انجازات" كثيرة قد تحققت، علماً ان الانجاز الوحيد الذي يجب ان يتحقّق منذ زمن طويل، كان قطع رأس الفساد والهدر المستشري، ولكن بعد تعذّر ذلك، من الضروري البدء بهذه المهمّة اليوم قبل الغد.