على وقع الإعتراضات الشعبيّة والنقابيّة التي تُرجمت إضرابات وتحرّكات وإعتصامات في الشارع، إنطلقت أعمال البحث في المُوازنة على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، على أن تنتقل في مرحلة لاحقة وقريبة، إلى السلطة التشريعيّة، لإقرارها. فهل ستمرّ هذه المُوازنة بسلاسة أم بصُعوبة، وهل ستُمثّل "خشبة إنقاذ" عجز الدولة المالي–إذا جاز التعبير، وماذا عن قُدرة مصرف ​لبنان​ على الصُمود أمام أي ضغط مُحتمل في المُستقبل؟

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ لبنان يُواجه منذ مُدّة مرحلة غير مُستقرّة على الصعيد الإقتصادي، بشكل أرخى بثقله السلبي على بعض قطاعات العمل، وعلى الحياة المَعيشيّة عُمومًا، بعكس الواقع المالي الثّابت أمام كل الضُغوط والإشاعات الكاذبة في أغلبها. والسبب أنّ تراجع فرص العمل، وإرتفاع نسبة البطالة بالتزامن مع تراجع الإستثمارات، لم يؤثّر على قُدرة ​مصرف لبنان​ المُستمرّة على مُواجهة أي ضغط مُحتمل في المُستقبل على الليرة اللبنانيّة، علمًا أنّ كل ما تردّد في الأيّام والأسابيع القليلة الماضية عن ​الوضع المالي​ في لبنان، لا يخرج عن الإشاعات الكاذبة الرامية إلى ضرب الإستقرار، من دون أن يكون لهذه الإشاعات أي أرضيّة تدعو إلى القلق الفعلي في هذه المرحلة. لكن وبهدف عدم السماح لمُطلقي الإشاعات بالتمادي في التأثير على الرأي العام، تجاوزت السُلطة السياسيّة، أيّ تضارب في الصلاحيّات، وأيّ خلافات في الرؤى السياسيّة والإقتصاديّة، ودخلت سريعًا في جلسات مُتتالية للحكومة، لدراسة المُوازنة، بعد أن قام وزير المال ​علي حسن خليل​، برفع الصيغة الجديدة المُعدّلة لمشروع المُوازنة والمواد القانونيّة المُقترحة فيه، إلى الأمانة العامة ل​مجلس الوزراء​.

وعلى الرغم من الشوائب التي يُمكن أن تعتريها عند إقرارها بصيغتها النهائية، وعلى الرغم من الإعتراضات التي ستلقاها من جانب أكثر من فريق شعبي ونقابي، بسبب بعض الإجراءات التقشّفيّة التي لا بُد وأن تطال في نهاية المطاف مصالح بعض المواطنين، إن بشكل مُباشر أو غير مُباشر، فإنّ من شأن إقرار المُوازنة على حسناتها وسيّئاتها، سيكون كفيلاً بإضفاء أجواء إيجابيّة بشكل عام، وسيفتح الطريق أمام تحرّك الأموال والقروض التي وُعد بها المُسؤولون في لبنان خلال مُؤتمر "سيدر" في الماضي القريب. وهذا بدوره سيترك نتائج مريحة على أكثر من قطاع، بالتزامن مع توقّعات ملموسة بتدفّق مجموعات كبيرة من السوّاح إلى لبنان هذا الصيف، مع ما يعنيه هذا الأمر من ضخّ للأموال في الدورة الإقتصاديّة.

والأنظار تتجه حاليًا إلى القوى السياسيّة المَعنيّة بدراسة المُوازنة وبإقرارها، لجهة معرفة الإتجاه الذي ستسلكه في تعاطيها مع هذه المسألة الحسّاسة، حيث عُلم أنّه جرى التداول في ضرورة وقف أي نوع من المُزايدات السياسيّة والشعبويّة، والإنكباب على إنجازها بأفضل صُورة مُمكنة وبأسرع وقت مُمكن أيضًا، منعًا لأي إستغلال مُحتمل للخلافات الداخليّة وللوضع الإقتصادي الحالي، من قبل بعض الجهات التي لا تريد سوى ضرب ركائز السُلطة وعوامل الإستقرار الداخلي. وعلى الرغم من إستبعاد أن تتضمّن عند إقرارها أي إصلاحات بنيويّة أساسيّة يُمكن أن تلعب دورًا أساسيًا في إعادة التوازن إلى الميزان المالي خلال فترة زمنيّة قصيرة، فإنّ مُجرّد إقرارها كفيل بتأمين الدفع الإيجابي المَطلوب، ولو لفترة زمنيّة مُحدّدة المُدّة.

والعمل قائم حاليا على خطّين، الأوّل يقضي بأن تتضمّن المُوازنة قرارات مفيدة لمالية الدولة وغير قاسية الوطأة على الطبقات المتواضعة والمتوسّطة الدخل، والخط الثاني يقضي بأن تحظى بأوسع تأييد مُمكن، لتقف كل القوى السياسيّة والحزبيّة المَعنيّة، أمام مسؤوليّاتها، إن إزاء مُؤيّديها أو إزاء المُواطنين عمومًا، وذلك منعًا لقيام أيّ جهة بإستغلال الإعتراضات الشعبيّة التي لا بُد وأن تظهر، والتي بدأت أصلاً تترجم عبر مجموعة من التظاهرات والإعتصامات الميدانيّة. والأكيد أنّ الإقرار المُرتقب لها قبل نهاية شهر أيّار الحالي، وهو تاريخ إنتهاء المُهلة المُحدّدة للحُكومة للصرف وفق قاعدة الإثني عشريّة، سيؤمّن دفعًا معنويا كبيرًا للوضع في لبنان على أبواب فصل الصيف، وسيُكسب القطاعات الإقتصاديّة والماليّة المزيد من الوقت للعمل على مُعالجة الصُعوبات القائمة.

وفي الخُلاصة، صحيح أنّ المُوازنة المُرتقبة لن تكون "خشبة إنقاذ" عجز الدولة المالي، لكنّها ستترك مجموعة من الإرتدادات الإيجابيّة، لجهة الإستفادة التصاعديّة من أموال مؤتمر "سيدر"، ولجهة قطع الطريق على الأجواء التشاؤميّة التي طغت في المرحلة الأخيرة.