عندما جرى إقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​ عشيّة الإنتخابات النيابيّة الأخيرة، تحت ستار تحقيق "العدالة الإجتماعيّة" ظاهريًا، وبهدف "الرشوة الإنتخابية" ضُمنيًا، أكّد خُبراء ​الإقتصاد​ والمال أنّ أخطاءً بالجُملة إرتكبت. والخشية كبيرة اليوم، في ظلّ عمليّات "شدّ الحبال" بين أكثر من جهة خلال مُشاورات إقرار المُوازنة، وفي ظلّ التظاهرات والإعتصامات والإضرابات من جهات مُعترضة أيضًا، أن تحتوي المُوازنة المُرتقبة على أخطاء لا تقلّ فداحة عن تلك التي تضمّنتها "السلسلة". فما هي إحتمالات الوُقوع في الخطأ مُجدّدًا؟.

بداية، لا بُدّ من التذكير سريعًا أنّه عند إقرار سلسلة الرتب والرواتب بعد سنوات طويلة من التأخير والمُمطالة، تمّ تسجيل مجموعة من الأخطاء التي ظهرت نتائجها السلبيّة سريعًا، والتي نُعاني من جزء منها في المرحلة الحالية، وأبرز هذه الأخطاء:

أوّلاً: عدم إحتساب الأعباء الحقيقيّة والدقيقة للزيادة العشوائيّة والكبيرة لرواتب ​القطاع العام​، الأمر الذي كبّد خزينة الدولة أعباء أثقلت كاهلها، وزادت من الهوّة بين الواردات والمصاريف.

ثانيًا: التسبّب بخلل على مُستوى الرواتب بين العاملين في القطاع الرسمي، بحيث فاقت زيادات بعض الفئات ما لحق بفئات أخرى، الأمر الذي تسبّب باعتراضات لا تزال مُستمرّة حتىى تاريخه، تارة من جانب بعض القطاعات التربويّة وطورًا من جانب بعض المُوظّفين المُتقاعدين.

ثالثًا: التسبّب بتفاوت كبير في رواتب أغلبيّة العاملين في القطاع العام والمُؤسّسات الأمنيّة من جهة، والعاملين في ​القطاع الخاص​ من جهة أخرى، ما فتح باب غياب العدالة الإجتماعيّة على مُستوى الرواتب على مصراعيه وألحق خللًا في ​الدورة​ الإقتصاديّة ككل.

رابعًا: فرض مجموعة من ​الضرائب​ والرسوم غير المَدروسة، على أمل تعويض جزء من مُتطلبات سلسلة الرتب والرواتب الماليّة، ليتبيّن بعد حين أنّ هذه الإجراءات جاءت بنتائج عكسيّة، بحيث زاد الإنكماش في الوضع الإقتصادي، ولم يتمّ تأمين سوى مبالغ محدودة من أصل المبالغ التي كان يُعوّل عليها لتغطية تكاليف "السلسلة".

واليوم، ومع إستمرار الجلسات التي تعقدها السُلطة التنفيذيّة لدراسة المُوازنة، تُواجه السُلطة السياسيّة ثلاث عقبات أساسيّة:

العقبة الأولى تتمثّل في تأمين أكبر قدر مُمكن من الإيرادات الإضافيّة لخزينة الدولة، بأقلّ قدر مُمكن من الضرائب والرسوم والإجراءات على المُواطنين، في ظلّ تفاقم الإضرابات والإعتصامات والإحتجاجات، حيث تُحاول كل فئة من المُواطنين إبعاد الإجراءات القاسية و"شبح التقشّف"–إذا جاز التعبير، عن رواتبها، ما يزيد من صُعوبة فرض مُطلق أيّ ضريبة أو رسم، أكان مُباشرًا أو غير مُباشر.

العقبة الثانية تتمثّل في كيفيّة إيجاد التوازن الدقيق ما بين التوصّل إلى "مُوازنة تقشّف" تُوفّر على الدولة دفع مبالغ ضخمة من جهّة، وما بين إستمرار "تمويل المشاريع وخدمات الوزارات" على إختلاف أنواعها من جهة أخرى. وليس بسرّ أنّ أكثر من وزير يضغط حاليًا لعدم خفض المُوازنة المُخصّصة لوزارته، بما يسمح له بالإستمرار بتقديم الخدمات المُختصّة بهذه الوزارة، خصوصًا وأنّ وُعود بعض الوزراء كانت عالية السقف جدًا عند تسلّمهم مهمّاتهم الحُكوميّة. إشارة إلى أنّ الخلافات التي حصلت أخيرًا بين وزير المال علي الخليل من جهة، وعدد من الوزراء، لا سيّما من المحسوبين على "التيّار الوطني الحُرّ" من جهة أخرى، جاءت بحجّة أنّ بعض البُنود الواردة في مشروع المُوازنة تستهدف مشاريع وزراء مُحدّدين دون سواهم، لجهّة حرمانها من التمويل الضروري المَطلوب، ما يعني وقف تنفيذها أو تأجيله إلى مرحلة لاحقة في أفضل الأحوال، الأمر الذي فتح الباب على تفجّر خلافات إضافيّة بين أركان الحُكم.

العقبة الثالثة تتمثّل في كيفيّة الإستجابة للتعهّدات التي جرى تقديمها من قبل الجانب اللبناني للمُجتمع الدَولي خلال مُؤتمر "سيدر"، وفي سُبل القيام بتقشّف جدّي وحازم على مُستوى المُوازنة تحدّ من ​العجز المالي​ المُتفاقم، في ظلّ عدم إستعداد أيّ جهة داخليّة، من ​المصارف​ والمسؤولين إلى المُوظّفين والعاملين، مُرورًا بالعكسريّين والمُتقاعدين، إلخ. للتخلّي عن مكاسبها، ورمي الجميع كُرة العجز على جهات أخرى.

في الختام، لا شكّ أنّه سيتمّ في نهاية المطاف التوصّل إلى إقرار المُوازنة–ولوّ بعد مخاض غير سهل، في ظلّ سعي رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ لإبقاء النقاشات، وتاليًا الخلافات، بعيدًا عن وسائل الإعلام، بالتزامن مع تسجيل مُحاولات من بعض الأطراف للعب على وتر المُزايدات الشعبيّة والسياسيّة، وحتى على وتر المُزايدات المناطقيّة والطائفيّة، ولكن الأسئلة التي تفرض نفسها: هل ستتكرّر أخطاء "السلسلة" في المُوازنة؟ بمعنى آخر، هل ستكون الضرائب والرسوم على فئات مُحدّدة دون سواها، بدلاً من تحمّل الجميع من دون أي إستثناء جزء من "التضحيات" المَطلوبة؟! وهل ستتسبّب إجراءات التقشّف القاسية المُنتظرة بمزيد من الركود الإقتصادي والإنكماش الإستثماري، من دون أن تعود على خزينة الدَولة بأيّ إيرادات مُهمّة تُخفّض العجز؟! لأيّام أو أسابيع قليلة وستبدأ النتائج بالظُهور...