أيّاً كانت المعالجات التي ستعتمدها السلطة لخفض ​العجز​ في موازنة 2019 فإنها لن تلغي حقيقة انّ ​لبنان​ يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية - مالية تهدده بالافلاس في أي وقت، أو حين تفقد الدولة قدرتها على سداد التزاماتها من خدمة دين عام الى دفع رواتب الموظفين وغيرهما.

ما وصلت اليه البلاد، يقول سياسي مخضرم، سببه أنّ الشعب يُدار بالغرائز الطائفية وتحكمه مجموعة من القوى تتصرّف كأشباه آلهة مسموح لها صرف النفوذ ووضع اليد على المال العام ولا أحد يحاسبها أو يحاكمها لاحتمائها بطوائف، الامر الذي أوصل البلاد الى ما هي عليه من تفكك وضياع سياسي، وكذلك من تفكك اقتصادي ومالي.

ولذلك، يرى هذا السياسي انّ البلاد مرشحة للتعرض لعاصفة اجتماعية كبرى، لأنّ نوعية الخطاب السياسي السائد على مختلف المستويات تنذر بهذه العاصفة التي، إن هبّت، ستكون بلا سقوف طائفية وسياسية، واذا نزل الناس الى الشارع فلن يكون في قدرة احد ان يعيدهم منه، وفي هذه الحال يُخشى ان تكون الدولة قد وقعت في «مقلب فظيع»، فإذا استمرت حالها على ما هي عليه بضعة أشهر فإنها ستكون امام إفلاس محتّم وعجز عن الايفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية.

فخفض عجز ​الموازنة​ الموعود يحول دون الوصول اليه مرحلة انعدام الثقة، اذ انّ اي قطاع من القطاعات العامة يرفض خفض اي شيء من مكتسباته، الامر الذي يضع البلاد أمام احتمالين: إمّا الدخول في أزمة اقتصادية ـ اجتماعية كبرى مع ما يتّرتب عليها من حراك عنيف في الشارع يتزامن مع حال من الذعر الاقتصادي والمالي لدى الناس، وإمّا الرضوخ للشارع وتلبية مطالبه بالابقاء على واقع الحال كما هو، الأمر الذي سيوصِل الدولة الى عجز كبير بعد 3 اشهر لا تستطيع معه الايفاء بالتزاماتها، وإمّا الهروب الى الامام بالذهاب الى رفع الدعم عن الليرة الامر الذي سيؤدي حتماً الى انخفاض قيمتها الى درجة كبيرة امام ال​دولار​ وغيره من العملات الاجنبية، وهذا الامر يُمكّن الدولة من اصلاح وضعها المالي، ولكنه في الوقت نفسه يوقِع الناس في أزمة مالية صعبة جداً بسبب انخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية وبالتالي انخفاض قيمة رواتب الموظفين وكل أصحاب الدخل بمَن فيهم الذين تقاعدوا من كل الاسلاك الوظيفية، فضلاً عن عامة الشعب.

ويرى السياسي نفسه ان «لا أحد يثق في ان الدولة هي دولة اصلاح، ففي جهاز ​القضاء​ أجريت تعيينات جاءت بمحاسيب بعض القوى السياسية النافذة، وانسحب الأمر على قطاعات أخرى طاوَلتها «نعمة» ​التعيينات​. وفي ​الكهرباء​ استؤجرت بواخر لاستجرار الطاقة بمبالغ تكفي لبناء المعامل التي يحتاجها لبنان لتوليد الطاقة 24 / 24 من دون حاجة الى البواخر وغيرها.

وفي رأي السياسي نفسه، انّ المشهد السائد يمكن تلخيصه بالآتي: مزيج من ثقة مفقودة بالدولة، ومزيج من ثقة مفقودة بالعهد الذي استهلك وأُفقِد صدقيته، ومزيج من أرقام الديون التي ترتفع. وهذا المزيج يولّد بكلّيته أزمة لم يعد في الامكان معالجتها بالوسائل الاقتصادية التقليدية لأنها تخطّت العلم الاقتصادي، اذ لا يمكن تحقيق زيادة في النمو الاقتصادي في ظل مناخ سياسي وأمني ساخن، ولا يمكن لزيادة 1 في المئة، إذا تحققت، أن تفيد. ولذلك فإنّ العلم الاقتصادي لم يعد في إمكانه معالجة المشكلة و»ليسمح لنا الخبراء الاقتصاديون القول انّ كل النظريات المطروحة اذا استجمعت لا تحقق اكثر من 2 في المئة من النمو المطلوب».

ويرى هذا السياسي نفسه «انّ هناك أعجوبة، أو مسألة سحرية وحيدة ولكنها مستحيلة، يمكنها ان تخرج لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية، وهي ​النفط والغاز​. فإذا تمّ تذليل العقبات الداخلية والخارجية التي تحول حتى الآن دون استخراجهما وتمكين لبنان من ان يجني سنوياً مبلغ 10 الى 20 مليار دولار، عندئذ سيمتلك لبنان عنصر ثقة مهم جداً وهو انه سيكون، في هذه الحال، قادراً بيُسر على سداد خدمة ​الدين العام​ السنوية وسداد قسم من هذا الدين، الى حد أنه يستطيع الخلاص من هذا الدين في مهلة لا تتجاوز الـ10 سنوات. فالوسائل التقليدية التقنية المتّبعة لمعالجة الازمة باتت مستنفدة، لأنّ الازمة بحجمها وخطورتها تجاوزت هذه الوسائل».

على انّ «أعجوبة» النفط والغاز ينبغي ان تتحقق من الآن وحتى سنة، حتى يمكن تدارك الازمة، واذا لم تتحقق فإنّ البلد ذاهب حتماً الى ​انفجار​ اجتماعي تجد الدولة نفسها في ظله غير قادرة على خفض العجز في موازنتها، وفي هذه الحال لن يكون أمامها سوى «الكَي» وهو آخر الدواء، أي اللجوء الى خيار رفع الدعم عن الليرة لإنقاذ نفسها على قاعدة «مُكره أخاك لا بطل» بحيث تكون قد عالجت الازمة عبر خفض قيمة العملة الوطنية. فالمعروف انّ الدول لا تُفلس عادة، وإنما تطبع مزيداً من عملتها او تخفّض من قيمتها، ولكن هذا الامر يؤدي تلقائياً في النهاية الى خفض قيمتها الشرائية.

فإذا انخفضت قيمة ​الليرة اللبنانية​ وارتفع سعر الدولار، تتضاعف قيمة الموجودات من العملات الاجنبية في ​مصرف لبنان​ الأمر الذي يمكّن الدولة من شطب نصف ديونها، ولكن ذلك سيكون على حساب اللبنانيين الذين ستهبط قيمة ما يقبضون من رواتب وما يدّخرونه من مال، خصوصاً اذا كان بالعملة الوطنية.

على انّ السياسي المخضرم نفسه، يعود الى التأكيد ان لا حل للأزمة الاقتصادية والمالية إلّا بحصول «أعجوبة» في قطاع النفط والغاز، ويدعو المسؤولين الى الاستمرار في البحث عن حل للمساحة التي قرصَنتها ​اسرائيل​ من المنطقة الاقتصادية اللبنانية الخالصة في البحر وتفوق الـ870 كلم2، والتي تحتوي مخزوناً غازياً وربما نفطياً كبيراً. ويرى انّ ​الامم المتحدة​ غير قادرة على ايجاد حل لهذه المعضلة، فيما ​الولايات المتحدة​ الاميركية تريد ان يكون الحل لمصلحة اسرائيل. ولكن الحل الحقيقي، في رأيه، يكمن في إيجاد طرف يستطيع ان يمون على اسرائيل ويؤثر عليها، ولكن ليس هناك من دولة في ​العالم​ تمون على اسرائيل اكثر من الولايات المتحدة. فهل يلجأ لبنان في هذه الحال الى القضاء الدولي، أم يفاوض على التسوية التي يقترحها الاميركيون؟ أم يلجأ الى نزاع سياسي وديبلوماسي، وحتى عسكري، لاسترجاع أرضه البحرية المحتلة، إذا جاز التعبير؟