هناك ظاهرة مخيفة البلاد العربيّة، وخصوصاً في ​لبنان​، وهي ظاهرة يصعب حلّها وتربك المدارس والأساتذة والأهل والكثيرين من بقايا المهتمّين بلغتهم العربيّة ولسانهم وحضارتهم. هي بإختصار هجرة العربية والخطّ العربي وتعبير العديد جدّاً من أولادنا وأحفادنا وكتابتهم لغتهم العربيّة الأم عبر وسائل التواصل الإجتماعي وأجهزة الخلوي من اليسار إلى اليمين وبالأحرف اللاتينية التي تستدعي أكثر من مقال ومؤتمر ودراسة.

هي ظاهرة تستدعي سؤآلاً قويّا: ما هو مستقبل لغتكم أيّها العرب؟

لقد صمدت اللغة العربية حاملةً في خلال الألفيّة الأولى الفكر والعلم والأدب، واحتلّت مكانة دوليّة مرموقة، كما صمدت في الألفية الثانية في وجه التتريك والذوبان في إبان الحكم العثماني الطويل، وكذلك أمام الاستعمار الأجنبي الفرنسي والانكليزي الذي دأب على سلب العربيّة صلاحيّاتها وسلطاتها وحضورها أداةً للتداول الرسمي والاجتماعي. لكنني أراها لم تصمد في وجه المتغيّرات مع بدايات الألفية الثالثة، فنراها تنهار وتتهدّد بالاضمحلال.

"الأخطر" من هذا كلّه، أنّ الأجيال الصغيرة ​الجديدة​ مقيمة أو تنخرط في الشاشاتالمتنوعة تلفازاً وألعاباً "إلكترونية" و"​آي باد​" يحسنون إدارة المعرفة المتقدّمة أو الإنقياد لها.يتشبهونويلوذون عبرها بالاستفاضة في الصمت أو قلّة الكلام، وكأنّهم يحقّقون الأعجميّة المعاصرة. وللتذكير، كان يُقال للرجل "أعجمي" بمعنى أنّه لا يعرف اللغة العربية. وتعني الكلمة في المعجمات البهيمية والخرس، وكأنّ مَن لا يعرفها هو من نوع "البهائم والخرسان".

وللتدليل على ذلك، فقد لقد عرفنا عبر التاريخ الكثير منالمشاريع المقدّمة التي كانت تنحو نحو تسهيل اللغة العربيّة والتي يمكن إدراجها مختصرةً في ثلاث فئات:

أ - مشاريع استعمال اللاتينية.

ب - مشاريع حافظت على الحروف العربية والحركات.

ج - مشاريع حافظت على الحروف واستبدلت الحركات بإشارات أخرى داخل الكلمات.

لكنّ البلاد العربية تعيش، اليوم،مناخاً يتجاوز مفهوم الاصلاح اللغوي، إذ كثر دعاة التغيير الذين باتوا يتحمّسون مجدّداً للحرف اللاتيني تعبيراً وكتابةً خصوصاً وأن قروناً من العمل الأكاديمي في إطار الجامعات ومجامع اللغة العربية ومؤتمرات الأكاديميين العرب والمناقشات المستفيضة لم تؤدّ كما يبدو إلى أية نتيجة.

ويذهب التبني والتنظيرفي حقل المخاطر إلى حدود جعل المشاريع كلّها مشروعاً لبنانياً محضاً كان أول من طبقه في لبنان وطوّره الشاعر ​سعيد عقل​ في كتابه "يارا"، حيث نجد ابتكاراً فيه لصور الحروف العربية باللاتينية.

لقد حاول سعيد عقل إقامة تجربته على ركيزتين، اعتبر في الأولى أن كل حرف له قيمة واحدة لا تتغير ولا يشارك فيها حرفاً آخر، والثانية أن الأهم هو التخلص من زوائد حروف ​العالم​ أجمع. وذهب به الأمر إلى حدّ مشروع طبع "نهج البلاغة" باللغة العامية، الأمر الذي حوّل طريقته إلى "بدعة"أو محاولة لمسخ هذا الكتاب وتشويهه. ولذا تمّ تحذيرهوتكفيره والطلب إليه ب" الإبتعادعن اللعب بالنار لأنّنا لا نريد له التعرض لنقمة عارمة من ملايين البشر الذين يرون في حرفه طعناً بمقدساتهم"، وصرف الرجل يومها النظر عن المشروع تماماً.

لا يمكن تصوّر الحملات القاسية التي ورّثتها مثل هذه الدعوات، مفصلة أضرارها الدينية واللغوية والاجتماعية والتربوية. بكونها تقطع الصلة بين مستقبل الأمة العربية وماضيها، وتضاعف الحروف العربية، وتدمّر الزخرف العربي وفنون الخط، وقد تيسر القراءة دون الكتابة، لكنها لا تسعف الأجانب في تعلّم العربية، وتخلط الحروف. هناك من يغالى في لبنان مميزاً بين الحرفين العربي واللبناني، معتبراً المحكية الأساس الذي يحقق "ثورة سلاحها الحرف"ومؤكّداً أنّ حرف سعيد عقل هو الحرف الذي يحلّ مشكلة كتابة اللغات في العالم. هناك، في الواقع، أكثر من مئتي محاولة حدثت قبل سعيد عقل وبعده وقدمت إلى مجمع اللغة العربية في القاهرة بناءً على مسابقة عربية عامة، مع جائزة ألف ليرة مصرية لمشروع تسهيل الكتابة العربيّة والتي لو قارناها بمحاولة سعيد عقل، فنجد أن حرف سعيد عقل هو الأفضل... وهو حرف أقرّ، في ​باريس​ عام 1971 في مؤتمر لغوي، بإلحاح من مندوب ​المانيا​ هانز غروزفلت وهو يطبق في بعض المعاهد في المانيا والسويد وكندا و​استراليا​، لأنّه يحلّ مشكلة كتابة لغات العالم أجمع... ولو علّمنا هذا الحرف لطالب في صفوف الروضة ولمدة شهر فقط فإنه يقرأ الجريدة بدون خطأ ويكتبها أيضاً بدون خطأ.

إنّ تحويل اللغة المحكيّة مكتوبةً "إنحدارٌ" إعلامي خطير، يتحقق بصمت وبدفاعات رسمية ضعيفة عاجزة، وقد يكون تعميمه أو ترسيخه مسألةَ زمن نجد أنفسنا فيها أمام لغة محكية مكتوبة متداولة حية ، تقابلها لغة فصحى ثانوية غير متداوَلَة إلاّ بالنزر اليسير في المدارس.