الكلام الإنتقادي والتقويمي المتنامي، حول ما يشوب ​التعليم العالي​ في لبنان، من تزوير شهادات وإعطاء رُخَصٍ والموافقة على إعتماد وزيادة إختصاصات جديدة، قبل إعطاء أُذونات المباشرة وإستكمال متطلّبات الحصول على التراخيص ومتابعة التدريس وفق القوانين والأنظمة، ليسَ مسؤولية ​وزارة التربية والتعليم العالي​ وحدها، رُغْم كلّ ما يقع على الوزارة واللجان الأكاديمية والتنظيمية الراعية والمشرفة على التعليم العالي بكلّ مفاصله وتوزيعاته، من المديرية العامة، التي لا تزال من دون هيكلية إدارية، الى مجلس التعليم العالي، واللجنة الفنّية، ولجنة الإعتراف والمعادلات، وقسم الكولوكيوم، بل إن المسؤوليةَ هي مسؤولية تراكمية ويتحمّلها بالمباشر، كُلّ مَنْ تهاونَ وساهمَ وإستفادَ وتغاضى وتشارك وإستغَلّ التزوير وحالات التسيُّب وإستثمره لمصلحته الفردية، من مثلِ المُزَوِّرِ والمُزوَّرِ له والغاضد الطَرفَ عَمّا يحصلُ من إرتكاباتٍ وإستغلالٍ للسلطة من جهة، وإساءةِ توظيفِ المنصبِ لغايات غيرِ سليمة، أوْ من ناحية أخرى "إساءة استخدام غياب القوانين والأنظمة" ما جعل العمل في المديرية يجري وفق مبدأ "التكليف" والإستعانة بمعلّمين من ملاكات الوزارة، الأمر الذي ساهم في حالة اللّإستقرار والترهُل والتفرٌد في إدارة هذا المرفق العلمي، بعيداً عن الشفافية والرقابة الواجبة الوجود.

إنّ الضجّة التي يتردد صداها في لبنان والخارج حول ما تم إكتشافه و كشفه حتى الآن، من تجاوزت وتطاولات إنتهكت حرمات التعليم العالي، ببعض مؤسساته وما تفرّع عن ذلك من تلاعب وتزويرات، يؤشر الى مخاطر وأخطاء تطال بالتأكيد كل ما ومنْ له علاقة بهذا المرفق الكياني، الذي كان يعتبر من ركائز البنيان الحضاري والثقافي والعلمي الذي إمتاز به لبنان وطبع صورته ودوره بعلامات التألق والابداع والرصانة العلمية، حيث كان لبنان "جامعة العرب" ودائرة معارفه ومستشفاه ومصرفه وصحافته، بعد أن كان باعث النهضة الفكرية والأدبية الحديثة، ومطبعته ودار نشره، الى الكثير من علامات الحضور التأكيدي الذي شغله لبنان لمدى أكثر من قرن ونصف من عمر الحضارة الجديدة.

إن حالة الفراغ الذي تعيشه المديرية العامة للتعليم العالي، تنعكس على ظروف عمل الادارة ومصالح الجامعات والطلاب واصحاب العلاقة بشكل مباشر، بحيث ان التأخّر في إملاء الفراغ عن طريق التعيين بالاصالة او بالوكالة او حتى بالتكليف، سيكون له تداعيات اكيدة على دور المديرية وإنتاجيتها. هذا ما يدفع وزير التربية والتعليم العالي الاستاذ أكرم شهيّب للإسراع بردم الهوّة الإداريّة وتحقيق نقلة نوعية على صعيد تفعيل العمل عن طريق تسمية شخصية أكاديمية لتولّي مهام المديرية العامة للتعليم العالي، بعد ان فرضت ظروف معيّنة حالة الفراغ فيها، وذلك حرصاً على إستمراريّة عمل المرفق العام والحؤول دون توقف الخدمات التي يوفرّها. إن المسؤولية الوطنية التي يحملها وزير التربية والتعليم العالي، في هذه المرحلة الدقيقة والإستثنائية تطلبت منه جهوداً تركّزت على الإمساك بمفاصل الوزارة وسعيه لإعادة هيكلة اللجان المركزيّة، من مجلس التعليم العالي الى اللجنة الفنيّة، ولجنة الاعتراف والمعادلات، بهدف إعادة بناء أسسٍ صلبة تمكّن من مواكبة التحديثات الاكاديمية والتنظيمية التي ترتقي بالتعليم العالي في لبنان الى مرتبة عالمية مرموقة. ولعلّ هذا ما يستدعي فعلاً خلق "خلية أزمة" لمواكبة التحديات وتجاوز المشاكل التي من الممكن ان تعترض مسيرة العمل الاداري.

ان السؤال المحوري الذي يرتسم اليوم في ظلّ هذه المأزقيّة المأزومة، هو: "كيف نعيد بناء الثقة بالتعليم العالي في لبنان"؟!، وأين هي مسؤولية النقابات القانونية، مثل نقابة الأطباء، واطباء الاسنان، والصيدلة والهندسة في رقابتها الرعائيّة للتعليم العالي، من تراخيص وفروع وإختصاصات وإعتمادات اكاديمية، فضلاً عن دورها في إمتحانات "الكولوميوم" و"أذونات ممارسة المهنة"؟.

ولنا أن نسأل أكثر و بإهتمام شديد:

١-أيُّ دورٍ للمرجعيات والقيادات السياسية في تحصين التعليم العالي ومنع إنهياره أوْ النَيْلِ من قُدراتهِ والحفاظِ على هَيْبتِهِ ودوره الحضاري والعلمي؟... إنّ بعض السياسيين أسسوا جامعات ومعاهد أخذتْ لها مكانا مرموقاً على خارطة الجامعات اللبنانية، وهم عملوا للتمثّلِ ب​الجامعة اللبنانية​ والجامعات العريقة التي أسْهمت بدَفْعِ الفكر العربي نحو الحداثة. لكن المستغْربَ في الموضوع أننا لمْ نَجِدْ غيرةً عند أحدٍ منهم، لا على "الجامعة اللبنانية" التي هي جامعة الوطن والساحة الوحيدة للتلاقي التفاعلي بين اللبنانيين الى جانب القوى والعسكرية والأمنية... فهل أمسى التعليم العالي في لبنان، من الكماليات على جدول إهتمام المسؤولين السياسيين؟!.

٢-نراقبُ بعجبٍ وإستغرابٍ موجِعَيْنِ، مواقفَ اللّاموْقف للنقابات القانونية، التي تتعامل مع تحديات ومشاكل وقضايا التعليم العالي وما يشوب هذا القطاع، في بعضِ جوانبه، بتساهلٍ ولامبالاة، وكأنّ وظيفة النقابة تحوّلتْ الى قبول طلبات الخريجين الجدد وجباية رسوم الانتساب منهم، من دون قيامها بأيّ عمل رقابي وتحصيني لحماية المهنة والمنتسبين إليها؟!. وهذا دور اكاديمي ووطني، مطلوبُ منها ان تؤديه وتتحمل مسؤوليته بوضوح.

٣-غياب المثقف اللبناني عن إتخاذ المواقف الرافضة لزعزعة الكيان الأكاديمي اللبناني، ترك تصدّعاتٍ عميقة في بنية النظام الاكاديمي ووظيفته وفلسفته. فمنذ تصاعد الكلام حول أزمة التعليم العالي وما تكشَّفَت عنه التحقيقات حول تجاوزات وتزويرات كادت أن تطال مفاعيلها بعض المؤسسات والإدارات، من خلال إمكانية إستغلال المزَوَّرِ، للإستفادة منه في الدخول الى وظائف إدارية وغيرها من القطاعات أو الترقّي بواسطته، على حساب غيره من المستحقين، لمْ نسمعْ أي كلمة، ولم نقرأ أي موقفٍ؛ غير مقالات "النهار")... وكأنَ المثقفين إستسلموا أو إستقالوا من دورهم، أو أن بعضهم دخل بازار التعليم العالي، مشاركاً أو مستفيدا ً أو مُغْمِضَاً عَيْنَيْهِ ومُغلقاّ أذنتيْه ومُطبقاً فَمَه، كي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم... ولمْ تكنْ تلك مرّةً من صفاتِ ولوازم المثقف اللبناني الصلب والعنيد والشديد الإنفتاح والتفاعل مع المستحدثات الفكرية والعلمية. ثمّ من الواجب ان نطرح، أيّ دورٍ للجامعات والمعاهد العليا، في التصدي لما حصل؟!.

٤-مسؤولية الجامعات العريقة، في عدم رفعها الصوت وإطلاق إنذارات التحذير من مخاطر وتهديدات ما يحدث، وكأن هذه الجامعات التي على أكتافها تمّ بناء الصروح العلمية في لبنان والبلاد العربية، وأسهمت بحركات التطوير والتحديث، قد إستكانت أو يئسَتْ من الوضع ومن المٕتحَكِمين به، ففضلوا الإكتفاء بإدارة مؤسساتهم ولم يِعيروا أزمة التعليم العالي الإهتمام الواجب. حتى أننا، كمراقبين ومسؤولين ومعنيين، إفتقدنا أيّ صرخةٍ تطلعُ من اللبنانيين بعامتهم، كونهم على تماس مع المشكلة، إن من حيث كونها قضية وطنية، أو من حيث هي مسألة تمسّ أبناءهم وتهدد مستقبلهم وتخفّفُ من مستوى الشهادات وتهدّد قيمة صرفها في أسواق العمل، في لبنان والخارج.

٥-حتى الأحزاب والقوى المجتمعية، سجّلتْ غياباً ملحوظا ً وتباعداً يحملُ تساؤلاتٍ حادة عن الإنتصار لكرامة التعليم العالي وما يتهدده من اخطار. وكان لافتاً خلو البيانات السياسية ومداخلات النواب في جلسات المناقشة، من أيّ موقف حول أزمة التعليم العالي...

٦-حتى الحكومة ببيانها الوزاري ومقررات جلساتها المتعاقبة، لم تأتِ على أي ذكرٍ للمشكلة لا من قريب ولا من أقرب...

٧-حتى وسائل الإعلام، إلَّا قليلُها الرصين، غابتْ تماما عن طرح القضيّة ومتابعتها بمسؤولية تتوافق مع الدور النقدي البنّاء للاعلام، من حيث انه نيابة عامة إعلامية... وهنا من حقنا أن نطرح السؤال عن وظيفة ودور التنظيمات الإعلامية، من نقابتَيْ الصحافة والمحررين، و​المجلس الوطني للإعلام​، والمكاتب الإعلاميّة التابعة للأحزاب والجمعيّات المدنيّة.

٨-سؤال إستطرادي، له علاقة بتسمية الجامعات والمعاهد، حيث عمد بعضها عند طلب رخصة إنشاء جامعة إلى وضع أسماء دول معيَّنة مضافة إلى اسم الجامعة، بهدف الإيحاء أنها تحظى بإعتراف الدولة التي تستخدم اسمها. فَأينْ هي مسؤولية وزارة التربية والتعليم العالي أو ​وزارة الخارجية​، وأين هي مسؤولية السفارات التي تحمل بعض الجامعات إسم دولها!؟. هل تعلمُ بذلكَ؟ وكيف تتصرّف حيال ذلك؟.

ليس هذا كل شيء عن التعليم العالي في لبنان... بل سيكون للموضوع تشعّبات وردود فعل وإعادة تنظيم بهدف إستعادة الثقة في مخزون لبنانَ من الذَهَبِ و​النفط​.. وهذا يتم العمل لإحقاقه في وقت قريب، بعدما أعلن وزير التربية والتعليم العالي الاستاذ أكرم شهيّب عن إعادة هيكلة التعليم العالي بما يؤسس لتطلعات وإستراتيجية متماسكة مُحكمَةِ التنظيم. وهذا ما ينتظره لبنان بكل مؤسّساته وتركيباته المجتمعية والسياسية والأكاديمية.

ترى ألا يستحق التعليم العالي، أن تُعْقَدَ حوله مؤتمرات وندوات متخصصة؟ ولماذا لم يتم إعلان حالة طوارئ أكاديمية، لمواكبة القضيّة على خطورتها؟! ثم، أليسَ من الضروري إنشاء خلية أزمة على الأقل لبحث سبُل الحد من انهيارات الثقة بالتعليم العالي، والنهوض به من جديد؟!