بعد سلسلة طويلة من الجلسات الحُكوميّة الكثيفة على مدى شهر كامل، بلغت مُوازنة العام 2019 خواتيمها على مُستوى السُلطة التنفيذيّة، على أن تسلك طريقها إلى مُناقشات السلطة التشريعيّة في القريب العاجل. فأين هي نقاط قُوّة هذه المُوازنة، وأين هي نقاط ضُعفها؟.

أوّلاً: نجحت الحُكومة اللبنانيّة في خفض نسبة ​العجز​ في المُوازنة من 11.5 إلى 7.5%، وهذه نسبة جيّدة بشرط تنفيذها ميدانيًا وعدم الإبقاء عليها كنسبة نظريّة على الورق. وفي هذا السياق، يُوجد تشكيك كبير بأنّ يتمكّن لبنان من تحقيقها، باعتبار أنّ مسار المُوازنة لا ينتهي عند الجلسة الختاميّة في ​قصر بعبدا​، حيث أنّه بعد إحالة المشروع إلى ​المجلس النيابي​، سيُفتح باب النقاش مُجدّدًا، وستنتقل النقاشات وحتى الإستعراضات وسياسة تسجيل النقاط المُتبادلة، من طاولة الحُكومة إلى مقرّ مجلس النوّاب. ومهما بذلت السُلطة التشريعيّة من جُهود للإسراع في إقرار مشروع المُوازنة في أقصر فترة زمنيّة مُمكنة، فإنّ الستة أشهر الباقية من عام 2019، تعني عمليًا أنّ الأموال التي صُرفت خلال النصف الأوّل من العام الحالي تمّت وفق القاعدة الإثني عشريّة بحسب مُوازنة العام الماضي، والشُكوك كبيرة بأن تسمح الأشهر الستة الباقية بخفض العجز بالنسبة المَطلوبة بحسب الخطة المرسومة.

ثانيًا: في حال النجاح في الوُصول إلى نسبة عجز تبلغ 7.5% عمليًا وليس نظريًا، يكون لبنان قد نفّذ أحد أبرز شروط الدُول والهيئات المُساهمة في مؤتمر "سيدر"، أيّ لجهّة خفض العجز إلى ما دون نسبة 8%. لكن في المُقابل، هل ستُفرج هذه الدُول والهيئات عن الأموال المرصودة لصالح لبنان، مُكتفية بما تحقّق في هذا الاطار، أم أنّها ستطُالب مُجدّدًا بالإصلاحات البنويّة التي لم ترصدها هذه المُوازنة، لجهة وقف الهدر في كثير من مرافق الدولة، ومُعالجة الفساد بشكل مُباشر وواسع وحازم؟!.

ثالثًا: ستؤمّن مُوازنة العام 2019 أموالاً إضافيّة لخزينة الدولة بدون أدنى شكّ، نتيجة مجموعة من الضرائب والرسوم التي جرى اللجوء إليها، والتي يصبّ بعضها في صالح بعض القطاعات الإنتاجيّة والصناعيّة في لبنان. لكن في المُقابل، إنّ الكثير من الإقتصاديّين يتخوّفون من أن تتسبّب هذه الضرائب والرسوم، بزيادة حال الركود الإقتصادي والإنكماش على مستوى الأعمال، لأنّه من الخطأ–برأيها، فرض أي ضرائب أو رسوم إضافية خلال مراحل الركود، بغضّ النظر عن الجهّة أو الجهّات التي ستطالها الإجراءات التي ستُدرّ المزيد من الأموال على خزينة الدولة.

رابعًا: أظهرت الجلسات الطويلة والمُتتالية التي عقدها ​مجلس الوزراء​ للبحث في مُوازنة العام 2019، أنّ صفحة مشاريع رئيس الحُكومة الشهيد رفيق الحريري الإقتصاديّة قد طُويت بشكل نهائي. فإذا كان الراحل الحريري، قد طبّق خلال مرحلة حُكمه سياسة إقتصاديّة مُحدّدة المعالم، بقيت مُستمرّة لسنوات عدّة بعد إغتياله، فإنّ العقد الأخير شهد تراجعًا تدريجيًا لها التي تحوّلت من خطة نهوض إلى عبء ثقيل يرزح لبنان واللبنانيين تحت ديونه! ومع مُوازنة العام 2019، إنتقلنا من مرحلة الإستدانة لتنفيذ مشاريع إستثماريّة كان من المُفترض أن تكون مُنتجة، إلى مرحلة التقشّف الأقصى لإدارة الأزمة الإقتصاديّة بأقلّ ضرر مُمكن، ولتسديد الدُيون المُتوجّبة على الخزينة! أكثر من ذلك، صارت "الكلمة الفصل الإقتصاديّة" مُوزّعة بين وزارة المال التي صارت شبه ثابتة بيد أحد مُمثّلي "الثنائي الشيعي"، بكل ما لهذا الأمر من سُلطات ومفاعيل، وبين وزراء "التيّار الوطني الحُرّ" الذين صاروا يتمتّعون بدورهم، بالقُدرة الأكبر ضُمن القوى السياسيّة المُختلفة المُمثلّة في السلطة، على تحديد سياسات الدولة الإقتصاديّة، أو على الأقل الجزء الأكبر منها.

خامسًا: أظهرت جلسات مُناقشة مشروع المُوازنة إستمرار إنقسام الوزراء على أنفسهم، وغياب العمل الحُكومي الجَماعي كفريق واحد مُنسجم، حيث يضغط كل فريق سياسي لأن تنال الوزارات التي يتمثّل فيها، أكبر قدر مُمكن من التمويل، بالتزامن مع العمل على تقليص مُوازنات الوزارات التي تُديرها باقي القوى. ولم يعد يُمكن الحديث عن حُكومة واحدة، بل عن سياسة نكايات، وعن وزارات مُستقلّة تتنافس في ما بينها، لغايات ومكاسب سياسيّة وشعبويّة!.

سادسًا: أظهرت جلسات المُوازنة تراجع نُفوذ رئيس "تيّار المُستقبل"، رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ الذي يبدو أنّه فضّل التضحية بجزء من سُلطاته وصلاحيّاته على طاولة مجلس الوزراء، لصالح إنقاذ التسوية مع "التيّار الوطني الحُرّ"، الأمر الذي صبّ في صالح رئيس "التيّار" وزير الخارجيّة جبران باسيل الذي نجح في فرض مكاسب معنويّة فاقت دوره المُفترض كوزير واحد من أصل ثلاثين وزيرًا.

في الخُلاصة، الأكيد أنّ للمُوازنة الجديدة إيجابيّات وسلبيّات، وهذا أمر طبيعي، لكن ما هو غير طبيعي هو إستمرار الصراعات السياسيّة على طاولة الحُكومة التي يُفترض أن تكون مُشكّلة من فريق واحد مُنسجم ومُتضامن، ويعمل يدًا واحدة ولأهداف مُوحّدة. والأكيد أيضًا أنّ أغلبيّة اللبنانيّين صاروا غير مُهتمّين بأي زكزكات سياسيّة أو تصرّفات شعبويّة-من أي جهة أتت، وهم لا يريدون سوى خدمات أكثر وضرائب أقل، ولا يهتّمون سوى بتوفير فرص عمل لهم ولأولادهم، غير آبهين بخلافات أهل الحُكم وبإستعراضاتهم!.