مفاجئاً بدا التعليق الذي صدر عن أوساط رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ على حكم ​المحكمة العسكرية​ في قضية "فبركة" تهمة العمالة للمسرحي ​زياد عيتاني​، إذ تمنّت لو أنّ القضاة واصلوا اعتكافهم، ولم يصدروا الحكم الذي قضى بـ"تبرئة" المقدم ​سوزان الحاج​، والاكتفاء بمدّة سجن المقرصن إيلي غبش.

وما لم تقله أوساط الحريري قاله الأمين العام لـ"​تيار المستقبل​"أحمد الحريري، الذي اعتبر الحكم "مسيّساً بإدارة قضائية انتقامية كيدية"، واصفاً إياه بأنّه "حكم أعرج بتوقيع قاضٍ يصفّي حساباته الشخصية من حساب العدالة"، ما قرأه كثيرون غمزاً من قناة صراع الأجهزة، بين الأمن والقضاء.

وإذا كان صحيحاً أنّ علامات استفهامٍ تُثار حول مسار المحاكمة ومحطاتها المثيرة للجدل، فإنّ أسئلةً أكثر تُطرح حول "خلفيّات" صدور مثل هذا الموقف المناهض لأحكام قضائية صدرت باسم الشعب اللبناني، عن تيّار سياسيّ هو في صلب الدولة، الدولة التي تنادي بفصل السلطات في جوهر نظامها ودستورها...

علامات استفهام...

لا شكّ أنّ الحكم الذي صدر عن المحكمة العسكرية في قضية "فبركة" تهمة العمالة للممثل المسرحي زياد عيتاني زاد الغموض غموضاً، وفتح الباب أمام عشرات علامات الاستفهام لدى المتابعين للقضية، بدل أن يقدّم الأجوبة الشافية، خصوصاً أنّ جميع المتهمين خرجوا "أبرياء" إلى حدّ ما، في مفارقةٍ استغربها كثيرون، وبينهم عيتاني نفسه الذي استهجن كيف أنّه، وهو الضحية باعتراف القضاء، سُجِن أكثر من المتهمة الأساسية بتركيب قضيته.

وبمُعزَل عن كلّ شيء، يمكن القول إنّ قضية عيتاني-الحاج-غبش تشكّل واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل، ليس فقط لكونها حظيت بضجّة إعلاميّة لم تحظ بها أيّ قضية أخرى، ولكن لأنّ خلاصة الحكم فيها أوحت وكأنّ لا قضيّة من الأساس، علماً أنّ كلّ محطاتها ترافقت مع "بطولاتٍ" استغلّها البعض، بل تمّ صرفها في السياسة في مكانٍ ما، "بطولات" بدأت منذ لحظة توقيف عيتاني من قبل جهاز أمن الدولة، مع توالي ما قيل إنّها "اعترافات موثّقة" أدلى بها، وتحوّل بموجبها إلى "عميل خائن" برسم الدولة اللبنانية.

فجأةً، تحوّل مسار القضيّة برمّتها، بعد كشف ما وُصفت بـ"فبركة" الملف للممثل عيتاني، لتتحقّق بطولة جديدة تولاها فرع المعلومات التابع ل​قوى الأمن الداخلي​ هذه المرّة، مع توجيه أصابع الاتهام إلى الحاج وغبش، وإعلان براءة عيتاني الذي خرج من السجن خروج الأبطال،والذي لم يتأخّر "تيار المستقبل" تحديداً في الاحتفاء به، وخصوصاً من خلال أداء وزير الداخلية السابق ​نهاد المشنوق​ الذي طالب اللبنانيين بـ"الاعتذار" منه، الأمر الذي ربطه كثيرون يومها بالانتخابات النيابية.

السيناريو نفسه تكرّر من جديد بالأمس، لتنتقل البطولة مجدّداً من عيتاني إلى الحاج، التي تحوّلت بدورها من الجلادة إلى الضحية، في مفارقةٍ توقّف عندها كثيرون، فمن الصادق في كلّ ما جرى ويجري، منذ توقيف عيتاني حتى اليوم؟ وإذا كان الجميع أبرياء ولو بنسبٍ متفاوتة، فمن هو المذنب عملياً؟ وأيّ رسالةٍ تحملها هذه القضية، التي ذهب البعض إلى حدّ وصفها بـ"المسرحية"، خصوصاً أنّ رائحة السياسة التي فاحت منها، وإن بقراءاتٍ متباينة، تكاد تطغى على كلّ ما عداها؟!.

تصفية حسابات؟!

بعيداً عن كلّ الدوافع والملاحظات التي يمكن سردها على مسار المحاكمة في قضية عيتاني، وعلى الحكم الصادر وخلفياته وملابساته المتعدّدة، تُطرح علامات استفهام عن مغزى موقف "تيار المستقبل" العلنيّ من الحكم، بين من اعتبره محاولة لاسترضاء آل عيتانيوالبيارتة عموماً، ومن قرأ فيه غمزاً من قناة الصراع بين الأجهزة، وصولاً إلى حد الحديث عن مواجهة "باردة" بين "​التيار الوطني الحر​" و"تيار المستقبل".

فمن جهة، ثمّة من يتّهم "التيار الأزرق" بالتسرّع في إطلاق الأحكام السياسية بحقّ القضاء على خلفية الملف، بما يخدم الأجندة السياسية التي يتبعها التيار، وذلك في محاولة لاستباق ردود الفعل المحتملة واستيعابها، خصوصاً ممّن يعتبرون أنّ الممثل عيتاني كان ضحية "مؤامرة" تعرّض لها، وكان ينتظر من الدولة أن تردّ له الاعتبار، فإذا بها "تبرّئ" كلّ المتورطين في قضيته. ويرى أصحاب وجهة النظر هذه أنّ "الخطيئة" التي ارتكبها "المستقبل"، بمعزل عن كونه يفترض أن يكون أول المدافعين عن سلطة القضاء واستقلاليته، أنه باتهامه القضاء بأنّه "مسيّس"، أسهم في "تسييسه" في مكانٍ ما، من خلال المواقف التي أطلقها، والتي تندرج في خانة الضغوط، وذلك بدل سلوك المسار القانوني المفترض في مثل هذه الحالات.

لكن، في المقابل، ثمّة وجهة نظر أخرى تنطلق من أنّ ما حصل في قضية عيتاني-الحاج-غبش، التي أحاطت بها بروباغندا إعلامية واسعة، لا يبدو منطقياً، أو أن هناك قطبة مخفية لا تزال عالقة حتى الآن، ما يستدعي عدم إقفال الملف، تفادياً على الأقلّ للإقرار بقدرة أيّ كان على فبركة أيّ تهمة بحق أيّ كان، من دون أن يُساءَل أو يُحاسَب. ولعلّ ما زاد من غموض القضية يتمثّل في تداخل العوامل القضائية والسياسية والأمنية في آنٍ واحدٍ، علماً أنّ كثيرين توقفوا عند حضور مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي ​بيتر جرمانوس​ على المستوى الشخصيّ للجلسة، والمرافعة التي أدلى بها، وهو ما لا يحصل إلا نادراً، للحديث عن "ضغوط" واضحة على خطّ هذه القضية.

أكثر من ذلك، هناك من يربط بين حضور جرمانوس ومرافعته، وصراعه الشهير مع المدير العام لقوى الأمن الداخلي ​اللواء عماد عثمان​، الذي كان وراء إقالة الحاج من منصبها، كرئيسة لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية في قوى الأمن، من دون أن ننسى الملابسات التي رافقت نقل الملف أصلاً من جهاز أمن الدولة، الذي كان وراء توقيف عيتاني، إلى فرع المعلومات. ولا يتردّد البعض في وضع القضية في خانة "المواجهة الباردة" بين "المستقبل" و"الوطني الحر"، ليس لكون فرع المعلومات محسوباً على الأول وأمن الدولة على الثاني، بل لأنّه لم يعد سراً أنّ اللواء عثمان شخصياً بات يشكّل نقطة خلافٍ بين "تيار المستقبل" الذي يتمسّك به بوصفه خطاً أحمر، و"التيار الوطني الحر" الذي تشير المعطيات إلى أنّه يطرح تغييره في التعيينات الأمنية المرتقبة.

القضاء الضحية؟!

تعدّد "الضحايا" في قضية عيتاني-الحاج-غبش، تماماً كما تعدّدت فصولها ومحطاتها. في البدء، كان عيتاني هو الضحية، هو الذي رُكّبت له تهمة من أقسى التهم، لتتحوّل بالأمس الحاج إلى ضحية في عيون القضاء، بعدما صُوّرت وكأنّها تقف وراء المخطط كلّه.

لكن، بين هذا وذاك، يبدو أنّ القضاء هو "الضحية" من جديد، وكما في كلّ مرة، هو الذي يتعرّض للضربات من كلّ حدبٍ وصوب، ولعلّ ردود الفعل التي تفاوتت بالأمس، أجمعت على وجود "ضغوط" بالجملة عليه، ما يضرب قوته المعنوية واستقلاليته.

وقد يكون المطلوب ممّن هم في السلطة، قبل توصيف حكم بالجائر وآخر بالمسيّس، العمل على تحصين السلطة القضائية فعلاً لا قولاً، تفادياً لاستمرار تناتشها من قبل الجميع، بل توجيهها ممّن يعتقدون أنّ السلطة كلّها بيدهم وتحت نفوذهم، والقضاء جزءٌ لا يتجزّأ منها...