يُشبِّه يسوع ملكوت السماوات بحبّة الخردل وبالخميرة في العجين وبحبّة ​القمح​ وبغيرها من الأشياء التي تبدأ صغيرةً ولكنها لا تبقى كذلِك، بل تكبرُ شيئاً فشيئاً لتتألَّق وتُصبِح على تسامٍ ورِفعَة. وهذه هي حال إيمان المؤمن الذي يبدأ كما حبّة الخردل ولكنّه يكبر ليُصبِح شجرةً تُعشعِشُ فيها طيورُ السماء(متى13: 31)، وكما الخميرةُ التي تعمَل لتُخمّر مساحةً واسِعةٌ من الطّحين(متى 13: 33)، وكما حبّةَ قمحٍ التي تُعطي "مئة ضِعف"(لو8: 8). ولعلَّ أفضل تعبير عن هذه الحقيقة، ما أتى من على لِسان الربِّ يسوع نفسه في حديثه مع نيقوديموس عالم الشّريعة، حيث قال له: "لا تَعْجَبْ إِنْ قُلْتُ لَكَ: عَلَيْكُمْ أَنْ تُولَدُوا مِنْ جَدِيد. أَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاء، وأَنْتَ تَسْمَعُ صَوتَهَا، لـكِنَّكَ لا تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي ولا إِلى أَيْنَ تَمْضِي: هـكَذَا كُلُّ مَوْلُودٍ مِنَ الرُّوح"(يو3: 7-8).

مَن يعرف السيدة نهاد الشّامي منذ تاريخ شفائها إلى الآن، يُلاحظ بوضوح هذا التّحوّل الكبير الذي أَحدثه في حياتها هذا التدخّل الإلهي. فالأعجوبة التي أرادَ منها الربّ، بواسطة ​القديس شربل​، أن تكون علامةً لإيمان الكثيرين كما تقول، كانت علامةً وسبَب إيمانٍ لها أعمق وأصفى.

ولا أُبالِغ إن قُلت بأنّ هذه ​المرأة​ التي عَرَفت الشّفاء الجسدي، لَم تَعُد هي ذاتها المرأة التي كانت منذ زمان، بل أصبَحت المرأة المُتحوّلة المُستسلِمة للرّب بكّل جوارِحها. وهي نفسها تُخبر عن اختبارها الإيماني، فتقول: "يا ماما أنا ما كنت مؤمنة متل هلّق... كنت قدّس أنا وعيلتي كلّ يوم أَحد وإرجع عل البيت وكمّل شغلي... كنت صلّي ولكن هلّق بصلّي أحسن... بحب إختلي وحدي وقدّم صلاتي ليسوع... أشعر بوجوده معي... الواحد أفضل يصلّي قليل من كلّ قلبو من إنّو يصلي كتير من دون ما يعرف شو عم يصلّي".

ولَمّا تسألها عن الإيمان تقول: "الإيمان هو محبّة الله وتقديم القلب والفكر إلو، ومحبّة الناس...الإيمان هوّي بالعقل والقلب". "العقل والقلب"! هذا ما كتبه القديس ​البابا​ يوحنا بولس الثّاني في رسالته العامّة "الإيمان والعقل": فالإيمان لا ينفي العقل بل يتعاون معه "في سَعيِه إلى فهم السِرّ... ويُبيّن للإنسان حقيقة الإنسان في وضوحٍ كامل، ويكشف له عن سرّ دعوته التي هي المشاركة في سرّ الله وحياته الثالوثية"(يوحنا بولس الثاني، الإيمان والعقل، فقرة 13).

ولكن من أين لهذه المرأة الأُميّةُ أن تقول ما قالته، وهي بالطبع لَم تطَّلِع على رسائل البابوات، ولَم تُحَصِّل الشهادات الجامعيّة في علم اللاّهوت، ولا سِواها من ​العلوم​ والفلسفات البشريّة! أليسَ مِن عِشرة الله؟ بلى، فَمن أَلِفَ عِشرة الله، أحبّه الله وصادَقَه وكشف له بعضاً من أسراره الخفيّة عن حُكماء وفُهماء هذا ​العالم​، وأظهرَها للأطفال(لو10: 21). ونُهاد طِفلَة تُؤمن وتُصدّق من دون حاجة الى ضمانات ملموسة؛ فضمانة ثقتها هو الحبّ الّذي يملأ قلبها تجاه الرّبّ والإخوة.

بالعودة إلى ما مرّ، يُلاحِظ النّاظر أنّ نُهاد لَم تبقَ على إيمانها البدائي؛ فالإيمان بطبيعته مُتحرّك وعابِرٌ لجدران الكنائس والمنازل ومُثمرٌ ثِمار الرّوح، وغريبٌ عن المراوحة التي هي سِمة الكثير من المسيحيين الطّقوسيّين الذين يضعون الحرف فوق الرّوح، باحثين بذلِك عن إراحة ضمائرهم بِكَمٍّ من الممارسات الطقوسيّة الخارجيّة التي "لا يُمْكِنُهَا أَنْ تَجْعَلَ مَنْ يُقَرِّبُهَا كامِلاً مِن جِهَةِ الضَّمِير"(عب9: 9). نُهاد ذهبت إلى العُمق لِتقتاتَ من المحبّة الإلهيّة، مُعظّمةً الربّ الذي " نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. ... فأَنْزَلَ الـمُقْتَدِرينَ عنِ العُرُوش، ورَفَعَ الـمُتَواضِعِين"(لو1: 48و58)... وللحديث تَتمّة.