اذا كان منطق التسويات وتبويس اللحى كفيلا بطمأنة بعض المجتمع الدولي والمستثمرين حيال الوضع اللبناني بشكل عام، الا أنّه لا شك لا أثر يذكر له على صعيد المشاكل الاجتماعية والاقتصاديّة التي بلغت ذروتها في ظلّ وعود بانفراجات مقبلة من خلال مشاريع "سيدر" أو سواه، لم يلمس منها اللبنانيون عمليًّا شيئا يُذكر. ولا تزال أزمة الاسكان أبرز الأزمات التي تجعل ​الشباب اللبناني​ يئنّ طامحا لفيزا تتيح له ​الهجرة​ والانطلاق من جديد في بلد آخر، بعدما بات عاجزا في بلده عن تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش وبالتحديد تأمين منزل وسكن ملائم له، بغياب أيّ سياسة اسكانيّة للدولة اللبنانيّة المنهمكة برأب الصدع بين زعماء الطوائف وتطييب خواطرهم!.

وتتفاعل أزمة الاسكان بعيدا عن الأضواء مسبّبة أزمات اجتماعيّة شتى، آخرها رفع نحو 100 شاب وشابّة الصوت عاليا بعد تعذّر انتقالهم الى شققهم في مشروع مار يوسف السكني في منطقة الفنار، الذي تولت انشاؤه مطرانيّة ​السريان الكاثوليك​ بأسعار مخفّضة. ويختصر أحد الشبّان الذي اشترى شقّة في المشروع معاناة العشرات سواه لافتا الى انّهم دفعوا نحو 30 ألف دولار دفعة أولى في العام 2015 مع انطلاق عمليّة البناء بعدما قدّمت لهم المطرانيّة عرضا ممتازا مقارنة بباقي العروض في المنطقة نفسها. وقد لحظ الاتفاق أن يدفعوا مبلغا شهريا خلال 4 سنوات حتى موعد التسليم في آذار 2019، فيلجأوا حينها لطلب قروض من ​مؤسسة الاسكان​ لتسديد كامل المبلغ المتبقي قبل دخول شققهم. الا أنّ ما اتفق عليه الطرفان لم يجد طريقه على أرض الواقع في ظلّ توقف قروض الاسكان نتيجة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة التي تتخبّط فيها الدولة، ما جعلها تعتمد سياسة التقشّف بعد عشرات السنوات من الهدر والفساد والسرقات.

ويشير الشاب الذي روى معاناته لـ"النشرة" مفضلا عدم ذكر اسمه طامحًا لتسويات وتفاهمات مقبلة مع القيّمين على الطائفة، انه تمّ تسليم نحو 10 او 15 شقة من اصل 140 لمن تمكنوا من تأمين ما تبقى من أسعار شققهم كاملة، في وقت يطالب نحو 40 شخصا باسترجاع أموالهم، لكن البند الجزائي في العقد يلحظ ان يتخلوا عن 30 الف دولار من المبلغ الذي دفعوه والذي يتراوح بين 70 و80 ألف دولار. ويضيف الشاب: "عرضوا علينا ان ندفع 70% مما تبقّى من سعر الشقة وان نستكمل عمليّة تقسيط ما تبقى على سنتين، ولكن كيف لنا ونحن مجموعة من محدودي الدخل ان نقسّط للمصرف اذا ما توفر مصرفًا يعطينا قروضًا، وبنفس الوقت ان ندفع دفعة اخرى للقيّمين على المشروع؟ أضف ان القروض التي تعطيها المصارف اليوم محدودة جدا وان توفّرت فهي بفوائد عالية جدا نحن غير قادرين على تسديدها"!.

ويشير الشاب الى انهم طلبوا لقاء ​البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان​ لشرح ظروفهم والطلب اليه ان يدخلوا الى شققهم واستكمال عمليّة التقسيط بينهم وبين الكنيسة المستمرة منذ 4 سنوات، الا انهم أُبلغوا ان البطريرك لا يتدخّل بالموضوع وقد أوكل محامين لمتابعته. ويتابع الشاب: "في احد بنود العقد الموقّع ورد ان الكنيسة أنشأت المشروع لتشجيع الشبّان المسيحيين على التملّك والبقاء في الوطن وتأسيس عائلة صالحة فيه وعدم الهجرة منه، الا اننا للأسف لم نلحظ أيًّا من ذلك في المعاناة التي نرزح تحتها حاليا... فنحن "لا معلّقين ولا مطلّقين" لا نعرف مصيرنا خاصة ان قسما كبيرا منّا اما يعيش بالايجار او كان ينتظر تسلم شقّته للزواج".

ويشرح وكيل الكنيسة المحامي ايلي شربجي وجهة نظرهم مفصلا الملف منذ انطلاقته، لافتا الى ان "عقود البيع لم تلحظ حصر القروض التي سيحصل عليها الشارون بمؤسسة الاسكان، انما لحظت عدم تسليم الشقق قبل تسديد سعر الشقة كاملا". ويشير الى ان "ما بين 15 و20 شخصا أمّنوا المبلغ كاملا ومعظمهم عبر مصارف تعطي قروض اسكان ك​مصرف لبنان​ وسوريا و​مصرف الاسكان​ وغيرهما، لكن المشكلة ان الكثير من الشبان يرفضون دفع فوائد يعتبرونها مرتفعة ولا زالوا يعوّلون على اعطاء مؤسّسة الاسكان قروضا من جديد بفوائد منخفضة".

ويوضح شربجي أنهم اقترحوا على من اشترى أكثر من فكرة كدفع 70% من المبلغ المتبقي وتقسيط 30% على سنتين من دون فوائد، وهناك منهم من وافق ومنهم من يتريّث. ويقول: "نحن قدمنا تسهيلات كثيرة وعروضا منخفضة جدّا بحيث تراوح سعر المتر في المشروع بين 1150 و1500 دولار في وقت سعر المتر في المنطقة ما بين 1800 و2000 دولار". ويضيف: "لقد وقعنا في خسارة لأنّنا ندفع القروض التي أخذناها لاكمال المشروع، وها نحن اليوم نحاول التوصّل لصيغ مناسبة للكنيسة والشبان، خاصة وان البطريرك كان واضحا لجهة اصراره على عدم تحميل أحد تبعات ما يحصل من خلال دفع ما يرد في البنود الجزائية".

اذا، هي حلقة جديدة من حلقات المواجهة بين اللبنانيين التي تتحمل الدولة مسؤوليتها كاملة. فالى متى يدفع المواطن باهظا فاتورة غياب السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة؟ وعن ايّ دعوة للبنانيين المهاجرين للعودة الى لبنان، والّذين يقطنون فيه يحلمون بالمغادرة لعدم تمكنهم من تأمين سقف يأويهم؟!.