الإعلان عن قيام ثورة في بلد ما أو في مجتمع سرعان ما يتبادر إلى أذهاننا الانتفاض على واقع مرير ومسار سياسي اجتماعي اقتصادي خاطئ وبأن قيام الثورة لا بد أن يكون بهدف تصحيح المسارات وترجمة المفاهيم التي من شأنها حماية المجتمع من الانجرار خلف مفاهيم مستوردة تغسل عقول الناس وتنال من مبادئهم وقيمهم الوطنية فتغدو المواطنة والالتزام بحماية المجتمع والدفاع عن الوطن عبارة عن شعار بائد فيتحول الوطن إلى فندق والانتماء عبارة عن ​جواز سفر​ فيتقدم مبدأ السعي خلف تأمين المصالح الشخصية على حساب خراب الوطن والمجتمع

إن ما نعيشه اليوم عبارة عن ثورة في المبادئ والمفاهيم والقيم لكنها ثوره معاكسة لا تهدف للانتفاض على واقع سياسي واقتصادي وثقافي وعلمي مرير في أوطاننا إنما هي ثورة بمفعول رجعي أعادنا إلى عصر الهمجية والغزوات والسبي أو إلى عهد الانتداب.

إن بلادنا العربية تشهد ثورة لكنها ثورة من نوع آخر تهدف إلى جمع الغنائم والسيطرة على مقدرات الوطن والمجتمع وتجييرها لخدمة مشاريع أعداء الأمة فصار المسؤول في أوطاننا عبارة عن دمية تدار لتنفذ رغبات وأجندات المستعمر الجديد، وأمام هذا المشهد ألغيت الخطوط الحمراء وصارت المحرمات لا تعني المواطن أو المجتمع بشيء وهو الذي تحول بمعظمه إلى ساع لاسترضاء الدمية – رأس الهرم، ولو كان السبيل لذلك عمالة واستزلاماً لعدو الوطن حتى أضحت العمالة وخيانة الوطن عبارة عن وجهة نظر.

‏​لبنان​ بلد اجتاحته حرب لأكثر من خمسة عشر عاماً نتيجة اختلاف حاد في المبادئ والانتماء فالأكثرية من اللبنانيين لازموا مبادئ الدفاع عن الانتماء للهوية العربية وساهموا في إنجاح القومية وفي النضال من أجل ​فلسطين​ ودفعوا أثماناً باهظة دفاعاً عن التزامهم المبادئ والقيم العربية.

أما القسم الآخر من اللبنانيين أنكر الهوية العربية مفضلاً الانتماء للفينيقيين متبرئاً من ​العروبة​ ومن فلسطين متكلاً على حماية الغرب وبخاصة الأم الحنون ​فرنسا​ من بعبع العروبة والمحيط العربي وعندما عجزت فرنسا عن العودة عسكرياً إلى لبنان وانتدابه من جديد كانت ​إسرائيل​ الوجهة المفضلة للفينيقيين من اللبنانيين والانخراط معها بعمالة موصوفة وتعاون وثيق في شتى المجالات طلباً للحماية الإسرائيلية من أخوة لهم في الوطن اعتنقوا العروبة قبلة لهم.

ومع أن لبنان كان ومنذ الخمسينيات يعاني من انقسام الولاءات ورغم انطواء صفحة الحرب والاتفاق على دستور يؤكد هوية لبنان العربية لكن ما شهده لبنان خلال الأسابيع المنصرمة من استماتة بعض اللبنانيين وخصوصاً ​الفينيقيين​ منهم في الدفاع عن عودة لبنانيين، شغلوا منصب عميل لإسرائيل، إلى لبنان ورفضهم إطلاق صفة العميل على أولئك العملاء المجرمين، يثبت مرة أخرى بأن لبنان لم يزل يعاني من خلل بنيوي في بيئته الاجتماعية فيما خص مفهوم العداء لإسرائيل، فالعدو الإسرائيلي أضحى بالنسبة لقسم من اللبنانيين صديقاً لا ضير بالتعامل معه والعمالة لحسابه، أما بالنسبة لنا ولمعظم اللبنانيين فإن إسرائيل وقادتها أعداء محتلون لفلسطين و​الجولان​ وهم أعداء لنا حتى آخر نفس.

إن معظم الأنظمة العربية اتخذت من العمالة والخيانة نهجاً لتنفيذ ثورة عكسية تعيدنا إلى زمن الاستعمار الغربي والاستبداد العثماني فبدل التضحية من أجل تحرير واسترداد وطن عربي من احتلال إسرائيلي اسمه فلسطين إلا أنهم فضلوا التخلي عن فلسطين وعن تحرير الأرض العربية المحتلة وحتى أنهم تخلوا عن أقدس المقدسات أولى القبلتين وثالث الحرمين، إضافة إلى تخليهم عن مهد ​السيد المسيح​ بل إننا نستطيع القول إن معظم الأنظمة العربية قد أسهمت في بيع فلسطين ومقدساتها في مزاد علني وهرولوا وتسابقوا نحو تقديم أوراق اعتماد العمالة وإعلان الولاء والطاعة للعدو الإسرائيلي على حساب سيادة أوطاننا وكرامة مجتمعاتنا حتى إن مفهوم ومبدأ الكرامة عند أولئك الدمى المتربعة على عروش ورئاسة معظم البلدان العربية صار مفهوماً قديماً وبالياً لا يسمن ولا يغني عن غريزة البقاء ملكاً أو أميراً أو رئيساً لأن التمسك بمفهوم الكرامة يعني التخلي عن المركز أو الرئاسة أو العرش وبالتالي التخلي عن الحكم.

إن ما يهدف إليه الغرب وتعمل عليه إسرائيل بشكل دؤوب تنفيذه ثورة في المبادئ والقيم والمفاهيم نتائجها تؤدي إلى قناعة بأن التطبيع مع العدو الإسرائيلي والتعاون الاستخباري والأمني والتجاري إلى حد العمالة صار يمثل وجهة نظر، أما الالتزام بالممانعة وعدم الاعتراف بالعدو الغاصب والدفاع عن الحقوق والسيادة، صار يمثل خطيئة لا تغتفر.

وفي متابعة متأنية لجلسات ​مجلس الأمن​ ومداخلات المندوبين فيها سرعان ما يتبين لنا أن مندوبي معظم ​الدول العربية​ لا يدافعون عن كرامة وسيادة بلدانهم بقدر ما يستشرسون إلى حد الحنق في الدفاع عن تنفيذ أجندة ومشاريع ​أميركا​ وإسرائيل المحاكة ضد أوطاننا العربية في غرف أميركية إسرائيلية غربية سوداء، ولذلك فإنهم يظهرون دائماً بمظهر الدمى، على حين تجد مندوب سورية الدائم في ​الأمم المتحدة​ ​بشار الجعفري​ المؤمن بالمبادئ الوطنية السورية السامية، مدافعاً شرساً خلال جلسات مجلس الأمن، عن ​الجمهورية العربية السورية​ وعن الهوية العربية يمتلك الحجة القانونية والمحاججة الأدبية العالية، واضعاً النقاط على الحروف بتؤدة وعناية دبلوماسية قل نظيرها، مظهراً منطق الحق، مضيئاً درب الصواب بحكمة، ملتزماً القيم الوطنية، كاشفاً عورات العرب والمتآمرين من الغرب وإسرائيل الناطقين منطق الباطل بتزوير للحقائق وغسل للعقول والأدمغة.

إن ما يقدمه الجعفري في الدفاع عن سورية وعن القيم والمبادئ الوطنية لهو عبارة عن مدرسة وطنية خالصة للأجيال العربية بالعموم وللأجيال السورية بصفة خاصة، لقد استطاع الجعفري وبأسلوبه المميز وبحكمته وبحسه الوطني العالي من تشكيل ​منظومة​ دبلوماسية دفاعية تحمي وتغطي السيادة والكرامة السورية.

إن القيادتين السورية والإيرانية قدمتا للعالم أجمع أنموذجاً مختلفاً في مقاومة الضغوط الصهيوأميركية بعدم التهاون أو التنازل قيد أنملة عن الحقوق الوطنية وذلك من خلال الإصرار على تقديم المصلحة الوطنية العليا وصون مصلحة الشعب والوطن برفض الانصياع أو الارتهان لأي كان حتى وان كان حليفاً وبإصرار على الدفاع عن الحقوق وصون الكرامة والسيادة الوطنية لم نشهد لها مثيلاً في تاريخنا المعاصر.

إن مجمل التحركات والثورات إن لم تلتزم مبدأ العداء لإسرائيل ولم تتبن إلغاء مفاعيل كل الاتفاقات المبرمة مع العدو الإسرائيلي، تبقى تحركات وثورات مشبوهة ومرتهنة لمصلحة أعداء الأمة، فيما الثورة الحقيقية الهادفة إلى تصحيح اتجاه البوصلة المتمسكة بالمفاهيم وبالمبادئ المؤدية إلى صون كرامة الإنسان وسيادة الوطن تكمن بمدرسة الصمود الإيراني السوري، لأنها ستبقى مدرسة في ثورة ماثلة للأجيال تحكي قصة إرادة غيرت وجه ​العالم​.