خلال شهر آب الماضي، لم تكن مُوازنة العام 2019 لتمرّ على خير بعد تفجّر بند المادة 80 فيها(1)، لولا اللجوء إلى مخرج وسطي قضى في حينه بتوقيع رئيس الجُمهورية العماد ​ميشال عون​ عليها، بالتزامن مع توجيه رسالة إلى ​المجلس النيابي​ يطلب فيها تفسير المادة 95 من الدُستور ال​لبنان​ي، علمًا أنّ رئيس ​مجلس النواب​ نبية برّي تلقّف آنذاك الخُطوة، وحدّد يوم الخميس 17 تشرين الأوّل موعدًا لقراءة هذه الرسالة ولمُناقشتها. لكن اليوم، وعلى بعد نحو أسبوع من هذا الحدث، إنطلقت خلف الكواليس إتصالات سياسيّة ترمي إلى إيجاد المخرج المُناسب لتأجيل البحث بهذا الموضوع الحسّاس! فما الذي يحدث؟.

بحسب المَعلومات المُتوفّرة، إنّ قراءة رسالة الرئيس عون في الجلسة النيابية، وفتح باب ​النقاش​ بشأنها، في ظلّ الإنقسام المُستمرّ بالأراء إزاءها–كما ظهر في أكثر من تصريح خلال الشهرين الماضيين، يعني عمليًا أنّ المجلس سيشهد عمليّات شدّ حبال قاسية، بخلفيّات طائفيّة ومذهبيّة، ستقود تلقائيًا إلى فتح الباب أمام المُطالبة بتعديلات دُستوريّة من هنا، لتُقابل بالمُطالبة بتعديلات دُستورية أخرى من هناك! وبالتالي، إنّ عدم تحضير الأجواء مُسبقًا لمُناقشة موضوعيّة وراقية للمادة 95، والتعامل معها كخلاف طائفي مُرتبط بثغرات "​إتفاق الطائف​" لن يُسفر سوى عن مزيد من الإنقسام الداخلي، وعن مزيد من حال عدم الإستقرار، خاصة وأنّ هناك إحتمالًا كبيرًا بإنجرار بعض القوى السياسيّة إلى الفخّ الطائفي خلال هذه النقاشات. من هنا، بدأ رئيس مجلس النواب عبر نائبه ​إيلي الفرزلي​، وغيره من المسؤولين، إتصالات بعيدة عن الأضواء، في مُحاولة للتوصّل إلى مخرج ما يحفظ كرامة رئيس الجُمهوريّة، لكنّه يُجنّب في الوقت عينه المجلس النيابي مُواجهة حتميّة قد تنعكس سلبًا على الأوضاع الإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة الدقيقة في المرحلة الراهنة.

وحتى الساعة، لم ينضج المخرج–التسوية بعد، حيث يُوجد أكثر من رأي وإقتراح في هذا المجال، لكنّ بعضها يُوحي وكأنّ الرئيس قد تراجع، على غرار أن يُبادر شخصيًا إلى سحب رسالته أو أن يطلب النوّاب منه ذلك، وهو ما لن يحصل. وبالتالي، على الأرجح سيكون المخرج مُرتبطا بمبادرة مُباشرة من رئيس مجلس النواب شخصيًا، بحجّة إعطاء الأولويّة للوضع الحياتي الضاغط، على أن يتم تأجيل البحث برسالة الرئيس إلى مرحلة لاحقة، في ظروف داخليّة أفضل، أو بعد مُناقشتها من قبل لجنة نيابية مثلاً، من دون مُمانعة أن تتمّ قراءتها في الموعد المُحدد أيضًا، لكن على أن يرفع النقاش بشأنها إلى تاريخ آخر.

وفي كل الأحوال، وأبعد من مضمون رسالة العماد عون، وأبعد من مضمون المادة 95 من الدُستور، يوجد خلل تُعانيه الإدارات الرسمية في لبنان منذ العام 1990 حتى تاريخه، ويتمثّل في التفاوت الكبير في عدد المُوظّفين المسيحيّين والمُسلمين في إدارات ​الدولة​، والذي يميل بمعدّل عام لصالح المُسلمين بنسبة 70 % في مُقابل 30 % للمسيحيّين تقريبًا، وذلك من إجمالي عدد المُوظّفين من مُختلف الفئات(2). وبالتالي إنّ المسألة غير مرتبطة بحقّ مئات الناجحين في مباريات مجلس الخدمة المدنيّة بالتوظيف من عدمه، بقدر ما هي مُرتبطة بضرورة الحفاظ على توازن طائفي سليم على مُستوى الدولة اللبنانيّة. وليس صحيحًا أنّ المسيحيّين يتهرّبون من الوظائف الرسميّة، بعكس المُسلمين، حيث أنّ هذه المقولة إنتشرت في زمن تعرّض فيه المسيحيّون لحملات إضطهاد سياسي مُنظّمة، ولم تعد صالحة اليوم، خاصة وأنّ رواتب ​القطاع العام​ صارت حاليًا أفضل من رواتب أهمّ شركات ومُؤسّسات ​القطاع الخاص​، وهي تُغري الجميع من دون أيّ إستثناء. ولمّا كان التوظيف في الدولة مُعلّقًا في المرحلة الراهنة لمدّة ثلاث سنوات–على الأقلّ، فهذا يعني أنّ الخلل سيبقى قائمًا، ومن الضروري عدم إتخاذ خُطوات تُعمّق هذه الهُوّة بدلاً من العمل على ردمها.

في الخُلاصة، طالما أنّ الدولة المَدنية لا تزال حلمًا بعيد المنال، وطالما أنّ القوى والأحزاب والشخصيّات السياسيّة لا تزال مُنغلقة ضمن بيئتها الطائفيّة والمذهبيّة، فعلى كل شخص مُهتمّ بالحفاظ على هويّة لبنان التعدّدي، الحرص على إبقاء التوازن قائمًا في مُختلف قطاعات الدولة وليس في وظائف الفئة الأولى فحسب، إنطلاقًا من إلتزامات وطنيّة وأخلاقيّة وليس إنطلاقًا من مواد وبنود دُستوريّة–أيّا كانت وُجهات النظر في تفسيرها.

(1) ينصّ على حفظ حقّ الناجحين في إمتحانات مجلس الخدمة المدنيّة في التوظيف، حتى مع مُرور الزمن.

(2) بالنسبة إلى المُوظّفين المُثبّتين، تبلغ النسبة 63 % لصالح المُسلمين في مُقابل 37 % للمسيحيّين، في حين أنّ هذا التفاوت يُصبح فادحًا أكثر على مُستوى المُتعاقدين و​المياومين​، مع نسبة تبلغ 77 % لصالح المُسلمين في مُقابل 23 % فقط للمسيحيّين.