لطالما اعتمدت دول غربية، خصوصاً أوروبية، سياسة الفصل بين جناحين داخل "​حزب الله​"، أحدهما سياسيّ والثاني عسكريّ، وذلك في سياق مقاربتها للعلاقة مع الحزب، وتبريراً لاستمرار ​الاتصالات​ معه على رغم تصنيفه من بعض حكوماتها "إرهابياً".

لكنّ تصنيفاً جديداً برز خلال اليومين الماضيين، على هامش زيارة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ إلى ​الإمارات​، حين قال في حديث صحافي إنّه ينبغي توجيه الاتهام إلى "حزب الله" بوصفه "جزءاً من النظام الإقليمي وليس بصفته أحد أطراف ​الحكومة اللبنانية​".

بمعنى آخر، فصل الحريري بين "جناحين" جديدين داخل الحزب، أحدهما لبناني والثاني إقليمي. فما الذي قصده بهذا التصنيف؟ وأيّ رسائل أراد توجيهها ولمن؟ وهل يؤشر ذلك إلى بوادر "أزمة" بين الحريري والحزب، بعد فترة من "مساكنة" اتسمت بالهدوء والابتعاد عن التشنّج؟!.

عصفوران بحجر؟!

على رغم "الرمزية" التي طبعت حديث الحريري عن "حزب الله"، انطلاقاً من الزمان والمكان على هامش زيارته إلى الإمارات، إلا أنّها ليست المرّة الأولى التي يتحدّث فيها الحريري بهذه الروحيّة عن الحزب، ويحاول فيها وضع تصرّفاته التي قد تبدو "محرجة" للحكومة اللبنانية، في إطار إقليميّ محض.

هذا المعنى كان برز في حديثٍ أدلى به الحريري قبل أسابيع أيضاً إلى قناة CNBC الأميركية، حين صنّف "حزب الله" على أنّه بات يمثّل "مشكلة إقليميّة"، وشدّد على أنّه لا يوافقه على الكثير من تصرّفاته، نافياً المقولة الشائعة بأنّ الحزب هو الذي يدير الحكومة اللبنانية ويتحكّم بقراراتها.

ولعلّ هذه النقطة بالتحديد تفسّر فحوى الانتقادات الضمنيّة التي يحرص الحريري على توجيهها إلى الحزب، خصوصاً عندما يتكلم من منابر خارجية، سواء خليجية أو أميركية، موجّهاً بذلك رسالة واضحة إلى حكومات ​الخليج​ كما ​الولايات المتحدة​، بأنّه لا يزال في خطّ المواجهة مع "حزب الله"، وانّ تشبّثه بالتسوية الرئاسيّة لا يعني مُطلقاً أنّه غيّر تموضعه الاستراتيجيّ، أو أنّه قرّر مثلاً الاصطفاف إلى جانب الحزب، وهو ما حاول البعض الغمز من قناته في أعقاب المواقف المساندة للحزب التي أطلقها الحريري بعد الاعتداء ال​إسرائيل​ي الأخير على ​الضاحية الجنوبية​، وما وُصِف بـ"الضوء الأخضر" الذي منحه للحزب للردّ على إسرائيل، بمُعزَلٍ عن الحكومة.

انطلاقاً من كلّ ذلك، ولأنّ الحريري يدرك أنّ بعض التصريحات الصادرة عن قيادات "حزب الله" تحرجه على المستوى الشخصي مع الكثير من "أصدقائه" في الخارج، يمكن القول إنّه أراد عبر الفصل بين جناحين لبنانيّ وإقليميّ للحزب، ضرب أكثر من عصفورٍ بحجر. فهو يسعى بذلك إلى التنصّل من الكثير من المواقف التي يطلقها الحزب، والتي تندرج في خانة التبعية ل​إيران​، أو بالحدّ الأدنى الولاء لها الذي يقرّ به أصلاً المسؤولون في الحزب، وفي الوقت نفسه إلى تبرير وجوده الفاعل في الحكومة، باعتبار أنّه يبقى حزباً لبنانياً يمتلك حيثية شعبية لا يمكن التنكّر لها.

لا أزمة...

يحاول الحريري إذاً "التبرؤ" من بعض مواقف "حزب الله"، عبر توصيفه بـ"العقدة الإقليمية"، لا اللبنانية فحسب، في محاولةٍ لنقل الاشتباك معه إلى خارج الحدود اللبنانية، وهو ما يفسّره تمسّكه المُعلَن بسياسة "النأي بالنفس" عن "صراع المَحاور"، وتأكيده رفض "أي تورط لبناني في النزاعات الدائرة حولنا"، في إشارةٍ ضمنيّة إلى دور "حزب الله" المباشر في النزاع السوري، وربما اليمني والعراقي وغيرهما.

ويبدو لافتاً حرص الحريري على أن يخرج بموقفه هذا توازياً مع سلسلة مواقف أخرى، تؤكد تمسكه بعدم الخروج عن الإجماع العربي، ويردّ من خلالها على مواقف لقيادات في "حزب الله"، ولا سيما أمينه العام ​السيد حسن نصر الله​، والتي وصلت إلى حدّ "تهديد" بعض ​دول الخليج​ في حال وقوع أيّ مواجهة ساخنة مع إيران، وهو ما برز مثلاً من خلال إصرار الحريري على أنّ "الحكومة اللبنانية ترفض التدخل أو المشاركة في أي أنشطة عدائية لأي منظمة تستهدف دول الخليج العربي".

لكن، على رغم ما توحي به انتقادات الحريري لـ"حزب الله" من تشنّج في أكثر من مكان، فإنّ كلّ المعطيات المتوافرة تؤكد أنّ العلاقة بينه وبين "الحزب"، كجزءٍ من الحكومة، لن تتأثّر، بل إنّ "الحزب" مستمرّ بالنأي بالنفس عنها، وأنّه لن "ينجرّ" إلى سجالاتٍ بشأنها مع رئيس الحكومة، على حدّ ما يقول بعض العارفين بأدبيّاته. وينطلق ذلك من إدراك الجانبيْن أنّ العلاقة بينهما، المحكومة باحترام الاختلاف وتقبّله، لا بإذابته وإخفائه، ترتقي إلى مستوى "المصلحة المشتركة" لأكثر من سبب واعتبار، بعيداً عن كلّ فصول الاشتباك الإقليمي الآخذ في التفاقم.

ويذهب البعض في تفسير هذا المنحى عبر القول إنّ "حزب الله" ما كان ليتردّد في إعلان دعمه المطلق للحريري، ويدحض كلّ ما يسوقه بعض "الأبواق" بين الفينة والأخرى، عن درسه "خيارات أخرى" ل​رئاسة الحكومة​، لو لم يكن يعتقد أنّ مثل هذه التصريحات ستؤذي رئيس الحكومة ولن تفيده، وبالتالي فهو يتفهّم ظروف وحيثيّات كلّ ما يصرّح به الرجل، من دون الحاجة للتدقيق بـ"النوايا" أو الحكم عليها هنا أو هناك. وتماماً كما أنّ "الحزب" يجد مصلحة في استمرار العلاقة مع الحريري، لإدراكه أنّ "الأصيل" يبقى أفضل من كلّ "الوكلاء"، الأمر الذي كرّسته التجربة، فإنّ رئيس الحكومة لا يجد مصلحة في "التوتير" الآن، في وقتٍ يسعى لتغليب الشأن الاقتصادي والاجتماعي على ​السياسة​، وإيقاظ حكومته من "سُباتٍ عميق" يكاد يقضي عليها، فكيف إذا ترافق مع "تشنّج سياسي" لا طائل منه.

مصير على المحك!

صحيح أنّ ​التسوية الرئاسية​ قرّبت رئيس الحكومة من "حزب الله" في مكانٍ ما، إلا أنّ الحديث عن "تقارب" في السياسة بين الرجلين أقرب إلى "المبالغة" منه إلى الواقعية.

فحتى لو صحّت الفرضية القائلة بأنّ الحريري أيقن بأنّ "حصانته" هي في "التسوية" مع "​التيار الوطني الحر​"، ومن خلفه "حزب الله"، بعدما خسر الكثير من "أوراقه الرابحة" في الخارج، فإنّ الأكيد أنّ تموضعه لم ولن يتغيّر، خصوصاً أنه لا يزال ينشد ودّ "المرجعية الإقليمية" بشكلٍ أو بآخر.

بهذه الضوابط، يسعى الحريري لرسم علاقته مع "الحزب"، علاقة تبقى "مرهونة" للظروف وما تخبّئه، خصوصاً إذا ما انجرّت المنطقة إلى مواجهةٍ يخشاها الكثيرون، مواجهة أعلن "حزب الله" أنه لن يقف فيها على الحياد، ولا شكّ أنّ الحريري سيكون على ضفّتها الأخرى، ما قد يطيح بكلّ ما تقدّم، ويضع مصير الحكومة، بل البلد برمّته، على المحكّ...