لم يكن أَحدٌ يتوقَّع أَن ينسحب المتظاهرون من الشَّارع، بعد إِلقاء رئيس الجمهوريَّة العماد ميشال عون كلمته إِلى اللُّبنانيِّين، بعدما كانت استُحضرَت الخميس صباحًا "المراحيض النقَّالة"، وتجدَّدت كلمة السِّرِّ لليوم الثَّامن على التَّوالي، وحتَّى قبل إِلقاء الرَّئيس خطابه: "المطلوب عدم الانسحاب من الشَّارع مهما كان الثَّمن"!..

حتَّى ولو قال لهم الرَّئيس تفضَّلوا أَيُّها المتظاهرون واستلموا قصركم في بعبدا، لكان الجواب سيأتيه فورًا: "لا نريد... نبتغي افتراش الشَّارع"!. ومن لم يجد نقدًا لمضمون الكلام الرِّئاسيِّ، توقَّف عند الشَّكليَّات ولم يعجبه "مونتاج الكلمة". وثمَّة من جاهر – بين صفوف الشَّعب الثَّائر– بعدم ثقته بقضاءٍ، عمل في الواقع وهو يعمل في أَحلك الظُّروف لإِحقاق الحقِّ، وكأَنَّ المطلوب انتشار الأَحكام العرفيَّة على امتداد وطن الحريَّات!.

حتَّى ولو أَعلن الرَّئيس عون الأَحكام العرفيَّة –وهذا ما لن يحصل ما دامت الشَّمس تشرق على الأَشرار والأَبرار–لكانت الثَّورة ستستمرُّ تحت عنوان "رحيل الدِّيكتاتور" لا سمح الله... وثمَّة من أَخذ على الكلمة الرِّئاسيَّة –من الشَّعب الثَّائر وإِن على حقٍّ– أَنَّ مضمونها اقتصر على محاربة الفساد، وقد تناسى هؤلاء أَنَّ ما أَوصل بنا إِلى هذه المرحلة الشَّديدة الخطورة على مختلف المجالات... هو الفساد المُزكم للأُنوف!.

حتَّى ولو أَعلن الرَّئيس عون أَنَّه سيفرش الأَرض رياحين، ويجعل الشَّعب تُزهر أَيامُه فرحًا وسعادةً وبحبوحةً أَين منها أَحلام "الرَّبيع اللُّبنانيِّ" المُطابق للمواصفات، وليس "الرَّبيع العربيّ" غير المُطابق لها... لكان الجواب اللا إِراديُّ الشَّعبويُّ سيكون: "شبعنا وعودًا"...

هي "الغوغائيَّة" الخلاَّقة، الجامعة للتَّناقضات شكلاً ومضمونًا... المعشعشة منذ ثمانية أَيَّام على طرق لبنان من شماله إِلى جنوبه، مرورًا بقلب بيروت النَّابض "حريَّةً وسيادةً واستقلالاً"... وهي خلاَّقة على اعتبار ما حقَّقته الثَّورة بفترةٍ قياسيَّةٍ لا شكَّ في نظافته ولا يُستهان به... وكنَّا نرغب في معرفة "مايسترو" الثَّورة لتهنئته!.

مفعول الخطاب الرِّئاسيِّ

غير أَنَّ خطاب الرَّئيس عون فرز "الثُّوَّار"، وهم قرابة ربع الشَّعب اللُّبنانيِّ (حوالي مليون لبنانيٍّ من أَصل 4 ملايين) فريقين:

-الأَوَّل استمع إِلى الخطاب العقلانيِّ المسؤول والواقعيِّ، فلقي كلامه صدًى إيجابيًّا في النُّفوس، وقد ظهر ذلك من خلال متابعة المواقف الشَّعبيَّة عبر قنوات التَّلفزة المتعدِّدة الأَلوان السِّياسيَّة، النَّاقلة مباشرةً للحدث...

-الثَّاني إِمَّا سمع الخطاب ولم يقتنع به (وهذا حقُّه)، وإِمَّا كان الكلام الرِّئاسيُّ عنده شبيهًا بالبذور الزِّراعيَّة الَّتي تسقط على صخرة الرَّفض المسبق لأَيِّ كلامٍ وبالمطلق... وإِمَّا لم تستمع هذه الفئة إِلى الكلام بالأَصل، لأَنَّ "البلوكاج" الدَّاخليَّ يحول دون أَيِّ مجال للتَّفاعل مع الرَّأي الآخر، أو لضروراتٍ حزبيَّةٍ تبرِّر الوسيلة التَّظاهريَّة لا بل تبرِّر القرار المُبرم بعدم الانسحاب من الشَّارع.

لذا بات على "المايسترو" المنظِّم للثَّورة أَن يضاعف مجهوده لاستجداء المزيد من "القاعدة الشَّعبيَّة" في الشَّارع، وله لتحقيق هذا الهدف استخدام كلِّ المُغريات من احتياجات الصُّمود طويلاً في الشَّارع كالمأكل والمشرب وقضاء الحاجة... وصولاً إِلى أَقصى درجات "التَّرف الثَّوريّ" كالفسق والمجون... ولنا في هذا المجال على الثَّورة إِلى الآن، ملاحظاتٌ وانتقاداتٌ كثيرةٌ، لست الآن في صدد ذكرها كلِّها ولو أَنَّني ذكرت الكثير منها على الصَّعيد التَّربويِّ - الخلقيِّ في مقالةٍ سابقةٍ خاصَّةٍ!.

وعليه فإِنَّ الوضع بعد الكلام الرِّئاسيِّ سيكون غير الوضع قبله، وباتت الكرة الآن في ملعب الجيش اللُّبنانيِّ البطل وقيادته الحكيمة، في فتح الطُّرق أمام 75 في المئة من الشَّعب اللُّبنانيِّ، مع تفهُّم المطالب المحقَّة والمُجمَع عليها، وكذلك تفهُّم حقوق النَّاس في التَّجوُّل في أَمانٍ وسلامةٍ داخل الأَراضي اللُّبنانيَّة.

"بابا نويل" وصل إِلى لبنان هذا العام قبل نيِّفٍ وشهرين من موعده، حاملاً الطَّعام والشَّراب والمراحيض... وحتَّى الرَّاقصات! وبدلاً من تهانئ العيد نقول: "الله يستر"!.