كانت كل نصائح المقرّبين من بيت الوسط تدور خلال الأيام الماضية حول أهمية إستقالة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​. كان يعتقد هؤلاء ان الحراك في الشارع سوف يتلقّف خطوة رئيس الحكومة، ليُصبح بطلاً بنظرهم، لمجرد التماهي مع مطالبهم. لم تغِب اللقاءات والاتصالات بين مقرّبين من الحريري و شباب من الحراك، لبلورة موقف يخدم الحريري و صنّاع "الثورة" معاً. لذلك، لم يكن تركيز المتظاهرين ضد رئيس الحكومة، بل ضد وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل بصورة أساسيّة.

جاءت استقالة الحريري تُحدث صدى ايجابياً بالفعل عند المتظاهرين، وتوالت الدعوات لفتح الطرق، فحقّقت الخطوة الحريرية إيجابيّة في لبنان بإلتقاط المواطنين أنفاسهم بعد أسبوعين من التظاهر. لكن مرور الساعات أظهر وكأن إستقالة الحريري نفّست الأجواء المعترضة.

بالمقابل، كانت الأكثرية النيابية المكوّنة من التيار "الوطني الحر" و"حزب الله" وحركة "أمل" وحلفائهم لا توحي بأنها ستعيد تسمية الحريري لرئاسة الحكومة. إقتنع الحريري نفسه بأن إمكانية عودته الى السراي الحكومي ليست مضمونة، لا بل مستبعدة، بسبب عدم قدرة "القوات" و"الكتائب" و"الإشتراكي" على قلب كفّة ميزان الكتل النيابية لصالحه، في وقت ترك فيه رئيس المجلس النيابي نبيه بري الباب مفتوحاً بشأن الرئيس المحتمل للحكومة العتيدة، بعدم تأكيده مُبكراً كما كان يفعل سابقاً أن الحريري مرشحُه لرئاسة الحكومة.

فهل أوعز "بيت الوسط" لإطلاق التظاهرات تأييداً للحريري، لبعث رسالة الى رافضيه بأنه قادر على تعطيل لبنان في حال جرت تسمية بديل منه؟.

يقول مطّلعون أن الحريري فتح الباب للتضامن معه، من خلال استقباله الوفود الشعبية في بيروت، والتفرّج على مسيرات سيّارة لأنصاره في مشهد يعيده ركناً سياسياً على الساحة السنّية، بينما كان أمنيون يشجّعون المواطنين في الشمال على التظاهر وقطع الطرق، بمؤازرة رجال دين دعوا الى شحذ الهمم الشعبيّة عبر مكبّرات الصوت في المساجد، بعدما وصلتهم الإشارة من دار الفتوى بوجوب الإستنفار نصرة للزعيم السنّي.

كل ذلك جرى، لعدم السماح بتجاهل الأكثرية النيابيّة للحريري في الاستشارات النيابيّة الآتية بعد أيام. يعرف رئيس الحكومة المستقيل أنّ خروجه من رئاسة مجلس الوزراء الآن يعني إبعاده عن السراي الحكومي بشكل قد لا يعود فيه يوما، او على الأقل في العهد الحالي الى ترؤس الحكومة.

كان يظن سعد الحريري ان عودته مطلبٌ داخلي وخارجي، وهو ضمانة لإنقاذ الوضع المالي من التدهور نحو الانهيار الشامل. لكن بانت مؤشرات عدّة اظهرت أن الإنقاذ ليس مربوطاً بشخص الحريري: أولا، لم تعارض عواصم القرار ترؤّس أيّ شخصية اخرى الحكومة اللبنانية، فالمهم بالنسبة اليها اعادة تصويب المعالجة الاقتصادية.

ثانياً، وصلت رسائل تفيد بإستعداد دولة خليجية الى دعم لبنان ماليا عبر هبات أو ودائع مصرفية كبيرة بالعملة الصعبة. مما يعني ان النزاع الخليجي قد يُترجم في لبنان دعماً مالياً يعيد الألق لعاصمة خليجية على حساب الباقي.

ثالثاً، وصلت رسالة للحريري في الساعات الماضية حملها نائب رئيس المجلس النيابي ايلي الفرزلي تفيد بإمكانية تأليف حكومة برئاسته بعنوان: تكنو-سياسية، أيّ عبارة عن خليط بين الوزراء السياسيين وأصحاب الإختصاص التكنوقراط، من دون أن يحقّ للحريري الإصرار على وضع تصوّره بإبعاد أو ضمّ شخصيات محدّدة، لكن الحريري يريد هذه المرة وضع شروطه تحت عنوان: استرضاء الحراك الشعبي، وهو أمر يزيد من إستبعاده عن المشهد الحكومي.

رابعاً، جرى التواصل مع النوّاب: نهاد المشنوق ومحمد الصفدي و فؤاد مخزومي، كمرشحين محتملين لترؤس الحكومة العتيدة، في وقت يحظى كل من رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي والنائب فؤاد مخزومي بثقل سياسي مقبول داخليا وخارجيا لإمكانية وصولهما الى التكليف. كل ذلك زاد من قلق الحريري.

لا تزال الأمور مفتوحة على مختلف السيناريوهات. في وقت يتفرج الآخرون على قطع الطرق: ماذا بعد؟ قد لا يفيد المشهد طموح الحريري الذي بات يلعب آخر أوراقه لفرض نفسه رئيساً مكلّفاً للحكومة المقبلة مع شرط ابعاد الصقور عن حكومته.