شيعتقد البعض انّ الرهان على إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة الجديدة قد انتهى. فيما يرى بعض آخر انّ ما يجري هو تفاوض وفي خلاله يلجأ المتفاوضون الى تصعيد مواقف واعتماد وسائل تصل بهم الى شفير عدم الاتفاق، ليتراجعوا عنها إذا شعروا بتحقيق اكبر مكاسب ممكنة. ويندرج في هذا الاطار التصعيد الذي شهده الشارع ولا يزال، بعد مقابلة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المتلفزة، وقوله خلالها انّ «للحريري اسباباً شخصية لرفضه العودة الى رئاسة مجلس الوزراء». وكذلك قوله: «قابلت الحريري ورأيت انّه متردّد في شأن العودة الى رئاسة الحكومة، ولم يعط أي اجابة حتى الآن». وهذا الامر لقي اصداء سلبية لدى الحريري، الذي واصل رفع سقف مواقفه مشفوعاً بنفي أن يكون اعتذر لأحد عن التكليف.

وقيل إنّ الحريري، وخلال المفاوضات التي جرت بينه وبين رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل حول ملف التكليف والتأليف الحكوميين، اكّد عدم رغبته العودة الى رئاسة الحكومة، ورشّح لخلافته رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود والرئيسين السابقين للجنة وليد علم الدين وأسامة مكداشي، وهؤلاء من التكنوقراط ذي المسحة السياسية.

ولكن، في انتظار ان يتضح الموقف النهائي للحريري قبولاً بإعادة تكليفه او رفضاً، فإنّ النقاش متواصل في موضوع حكومة التكنوقراط ومدى تلاؤمها من عدمه مع «اتفاق الطائف» والدستور الذي انبثق منه. المشاركون في الاتصالات يقولون إنّ الحريري «يريد بقوة» البقاء في سدّة الرئاسة الثالثة، ولكنه نتيجة ما يتعرّض له من ضغوط يخطر له الخروج من السلطة، لأنّ الضاغطين عليه، وهم جهات اقليمية ودولية فاعلة، يريدون منه ان يؤلّف حكومة تكنوقراط غير سياسية، ويعرف هو مسبقاً غاياتهم الفعلية منها بوجهيها الداخلي والخارجي، وتتمثل بإبعاد خصومهم عن السلطة، وعلى رأسهم «حزب الله» وحلفاؤه من الحكومة، في اعتبار أنّ تأليف حكومة غير سياسية يعني ان لا مشاركة للقوى السياسية فيها، سواء كانت هذه القوى موالية لهم او معارضة، ولكن في حسبانهم انّ هذه «الحكومة المستقلة» تخدم حلفاءهم حتى ولو كانوا غير مشاركين فيها، فتعمل على إجراء انتخابات مبكرة بعد تقصير ولاية المجلس النيابي الحالي، وفي خطوة تالية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة بعد تقصير ولاية رئيس الجمهورية.

لكن البعض يقول، إنّ الحريري ليس مرتاحاً ضمنياً لأمر من هذا النوع، وأنّه عندما يخطر له التسليم بفكرة «الحكومة المستقلة» او «حكومة التكنوقراط» الخالصة، يتمنّى ولو أنّ الآخرين المعارضين لها يتفهمون موقفه وان يقبلوا بتأليفها لإمرار مرحلة قصيرة يمكن بعدها العودة الى الحكومة السياسية او «حكومة الوفاق الوطني» التي ينادي بها «اتفاق الطائف».

لكن هؤلاء المعارضين يحاذرون بشدة القبول بحكومة من هذا النوع حتى ولو كان عمرها شهراً أو اقل من شهر، أولاً، لأنّهم يعتبرونها بمثابة انقلاب على «اتفاق الطائف»، ويستغربون هنا كيف انّ الحريري وحلفاءه المتمسكين بقوة بـ«إتفاق الطائف» والمنادين دوماً باستكمال تطبيقه وتصحيح ما طُبّق منه خطأ او مشوهاً، يقبلون بفكرة حكومة التكنوقراط هذه التي تخالفه.

لماذا يعتبر معارضو حكومة «التكنوقراط» انقلاباً على الطائف؟ لأنّ هذا «الطائف» الذي كُرّس دستورياً، انتزع السلطة التنفيذية من يد رئيس الجمهورية، الذي كان قبله يتولاها بمعاونة وزراء يختار من بينهم رئيساً يُسمّى «رئيس الوزراء» أو رئيس الحكومة، واناطها بمجلس الوزراء مجتمعاً، وجعل هذا المجلس مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وتتمثل فيه كل الطوائف والقوى السياسية، بما يجعل الجميع مشاركين في سلطة اتخاذ القرار الوطني في اي شأن داخلي او خارجي.

ولهذا السبب لا يمكن الحكومات بعد «اتفاق الطائف» إلاّ ان تكون حكومات سياسية أي حكومات وفاق وطني، ويمكن الانتقال الى مرحلة «أكثرية تحكم واقلية تعارض» في حال نشأت في البلد دولة أحزاب، فالحزب او الاحزاب التي تفوز بالاكثرية النيابية تشكّل حكومتها وتحكم، فيما تشكّل الاحزاب الأخرى معارضة ضمن لعبة ديموقراطية تخدم البلد وتطوره، خصوصاً اذا توخت الاكثرية والاقلية مصلحة البلد ووضعتها فوق كل اعتبار.

ولذا، ليس وارداً لدى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون او رئيس مجلس النواب نبيه بري أو حركة «أمل» و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر» وحلفائهم القبول بحكومة تكنوقراط يعتبرونها «انقلاباً» على إتفاق الطائف» وإلغاء لنتائج الانتخابات النيابية التي جرت عام 2018 تحاول قوى داخلية وخارجية الوصول اليهما من خلال ركوب موجة الحراك الشعبي الذي لا غبار على مطالبه التي تُعبّر عن وجع اللبنانيين جميعاً، وانّ الغاية من المفاوضات المتواصلة مع الحريري هي اقناعه بأنّ تأليف حكومة التكنوقراط هي ضرب من المستحيل لأسباب «طائفية» (نسبة الى «اتفاق الطائف») بالدرجة الاولى، والقبول بتأليف حكومة تكنوـ سياسية تضمّ وزراء سياسيين تكنوقراط او خليطاً من السياسيين والتكنوقراط. واذا تمنّع عن ذلك، فليسمِ شخصية تمثله تتولّى هذه المهمة.

واذ تبيّن من خلال الاتصالات، انّ الولايات المتحدة الاميركية وبعض حلفائها الاقليميين والدوليين يشجعون بقوة على تأليف «حكومة التكنوقراط»، يقول مشاركون في الاتصالات، انّ الفريق المعارض لهذه الفكرة بدأ يضغط في اتجاه تأليف «حكومة مواجهة»، أي حكومة تشمل كل المكونات ولا يُستثنى منها أحد الاّ من يستثني هو نفسه، وعندئذ ستكون واشنطن مضطرة في هذه الحال الى التعامل معها كأمر واقع، لأنّه في النهاية لا يمكن الاميركيون الخروج من لبنان خلافاً لكل ما يقولون ويفعلون، فهم لا يبنون في عوكر سفارة كبرى فقط، وانما قاعدة عسكرية كبرى لاستخدامات تتخطّى لبنان الى المنطقة برّمتها. فهم يضغطون دعماً لحكومة التكنوقراط، ولكنهم في «براغماتيتهم» التي يشتهرون بها، وفي اللحظة التي سيشعرون فيها انّ تأليفها صعب المنال، لن يكونوا محرجين بقبول الحكومة «التكنوـ سياسية»، ويمننون النفس عندها بأنّهم حققوا «نصف انتصار» على أرض خصومهم وخارجها. فيما خصومهم سيعدّون هذا الأمر بأنّه «نصف تراجع أميركي»...

وفي أي حال، يبقى الجميع في انتظار موقف الحريري. اذ في ضوء هذا الموقف سيبني المعنيون على الشيء مقتضاه: حكومة تكنوـ سياسية برئاسته، او برئاسة من يسمّيه هو أو يسمّيه المعنيون (إذا تمنّع عن التسمية»)، او «حكومة اللون الواحد» التي تبقى خياراً مستبعداً حتى إشعار آخر...