منذ إعلان رئيس ​الحكومة​ ​سعد الحريري​ الاستقالة على وقع التحركات الشعبية، في خطوةٍ وُصِفت بـ"الفرديّة" ومن دون التنسيق مع شركائه، بدا أنّ العلاقة بين ركني التسوية الرئاسيّة، أي "​التيار الوطني الحر​" و"​تيار المستقبل​"، دخلت منحى صعباً ومعقّداً إلى حدّ بعيد.

وعلى رغم اللقاءات والاتصالات التي رُصِدت في الفترة الماضية بين الحريري وكلّ من رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ووزير الخارجية ​جبران باسيل​ في حكومة تصريف الأعمال، والتي أفضت الأسبوع الماضي إلى "تزكية" الوزير السابق محمد الصفدي لرئاسة الحكومة، إلا أنّ شعور "عدم الثقة" كان يتعزّز لدى الطرفيْن.

تُرجِم هذا الشعور "نفوراً" واضحاً بين أنصار "المستقبل" و"الوطني الحر" على مواقع التواصل، إلا أنّه لم يصل إلى القادة الذين حافظوا على ما يمكن اعتباره "هدنة" ولو كانت "هشّة"، هدنة لا يبدو مُبالَغاً به القول إنّها سقطت قبل يومين عبر "حرب البيانات" التي أوحت بقطع "شعرة معاوية" بين الجانبيْن.

فما الذي حصل وأدّى إلى سقوط "الهدنة" التي حرص عليها أصحابها في أدقّ وأصعب الظروف؟ وهل يمكن القول في ضوء ذلك، إنّ التسوية الرئاسية أصبحت في خبر كان؟!.

"أنا أو لا أحد"؟!

بخلاف ما كان مُفترَضاً، فجّر إعلان التوافق على اسم الوزير محمد الصفدي لرئاسة الحكومة خلفاً للحريري، سجالاً حامياً بين أركان السلطة أنفسهم، قبل ذلك الذي كان مُتوقّعاً بين السلطة والمتظاهرين، الذين كان من البديهيّ أن يرفضوا للوهلة الأولى، اسماً ينتمي إلى الطبقة السياسية التي يدعون إلى رحيلها، وهو الذي سبق له أن تسلّم مناصب وزارية بالجملة، بعضها مثير للجدل.

فمع أنّ "المستقبل" و"الوطني الحر" كانا، إلى جانب "​حزب الله​" و"​حركة أمل​"، عرّابي الاتفاق على الصفدي، إلا أنّ أجواء "التوتّر" برزت جليّة في تصريحات القياديّين فيهما بعد ساعاتٍ من الإعلان، في وقتٍ كانت مصادرهما وأوساطهما تدلي بدلوها عبر "تسريباتٍ" لا تخلو من الاتهامات المتبادلة، وهو ما أدّى في نهاية المطاف إلى سحب الصفدي اسمه من التداول، وعودة الأزمة الحكوميّة إلى مربّعها الأول.

لا شكّ أنّ لكلٍ من الطرفيْن وجهة نظره ممّا حصل، فبالنسبة إلى "التيار الوطني الحر"، يتحمّل الحريري مسؤولية إفشال "التسوية" على الصفدي، بل يبدو مقتنعاً بفرضية "المناورة" التي تقوم على أساس أنّ رئيس الحكومة المستقيل لم يقبل السير بالاتفاق، إلا بهدف "حرق" اسم الأخير، وبالتالي فرض شروطه مجدّداً، وفق مبدأ "أنا أو لا أحد". وخير دليلٍ على ذلك، وفق المحسوبين على "التيار"، أنّ الحريري لم يلتزم بالتعهّدات التي قطعها، لتأمين "الغطاء" المطلوب للصفدي للسير بمهمّته، بل فعل العكس من ذلك، من خلال تأليب الرأي العام السنّي ضدّه، وما بيان رؤساء الحكومات السابقين سوى الدليل على ذلك.

في المقابل، يرى "تيار المستقبل" أنّ المشكلة ليست لديه، خصوصاً أنّ الحريري لم يمانع الاتفاق على الصفدي، الذي يتردّد أنّه كان مرشّح "التيار" منذ البدء، إلا أنّه صارح شركاءه بأنّ الشارع لن يرضى بهذا الحلّ، وهو الذي يطالب بحكومة تكنوقراط بعيدة بالمُطلَق عن كلّ المنتمين إلى الطبقة السياسية التي مارست الحكم على مدى العقود الثلاثة الماضية. وبالنسبة إليه، فإنّ من يتحمّل مسؤولية إسقاط "التسوية" بالدرجة الأولى هو الوزير باسيل شخصياً، خصوصاً بالتصريحات التي أدلى بها، وصادر من خلالها صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة، بإعلانه موعد الاستشارات ونتيجته وشكل الحكومة، وهو ما كان من الطبيعي أن يشعل "الانتفاضة" من جديد.

ماذا بعد؟!

بمُعزَلٍ عن موقف كلّ من الطرفيْن، ضجّت الكواليس السياسية بالكثير من الروايات حول "أبعاد" تسمية الصفدي، تتّفق بمجملها على اعتبار الأخير "ضحية" لـ"صفقةٍ ما"، لا تؤدّي إلى "احتراق" اسم الأخير وكل من يحذو حذوه فحسب، وظهور الحريري كـ"مُنقذٍ" لا بدّ منه، بل تسهم في إعادة رسم "قواعد الاشتباك" على خطّ المفاوضات الدائرة لتشكيل الحكومة.

وفي هذا السياق، قيل إنّ الحريري تعمّد الموافقة على اسم الصفدي من جهة، وتسريبه من جهة ثانية، ليوحي أنّه يسهّل الحلّ ولا يعرقله، وأنّ الشارع هو الذي أسقطه، معتقداً أنّه بذلك قادرٌ على فرض شروطه بالنسبة للحكومة. وقيل في المقابل، إنّ الطرف الآخر لم يكن راغباً أصلاً في السير بالصفدي حتى النهاية، وأنّ كلّ ما أراده هو القول للحريري إنّ عليه القبول بشروطه، وإلا فإنّ هناك بدائل متوافرة وموجودة، وبعضها قد يكون من الفريق الضيّق المحيط به.

بيد أنّ ما لم يكن في الحسبان أن تنزلق الأمور إلى المستوى الذي وصلت إليه، فتتوتّر العلاقات بين "المستقبل" و"الوطني الحر" كما حصل، وتخرج الخلافات المتفاقمة بينهما إلى العلن، بما هدّد، جدياً هذه المرّة، بسقوط التسوية الرئاسية وكلّ متفرّعاتها بشكلٍ نهائيّ. ولكن، ماذا بعد؟ وهل من حلّ ممكن أصلاً على وقع هذا السيناريو "السوداويّ"؟!.

يقول العارفون إنّه مهما تفاقمت الخلافات، فإنّ التوافق بين "المستقبل" و"الوطني الحر" يبقى شرطاً لأيّ حلّ حكوميّ، إلا إذا أراد أيّ فريق السير بـ"مغامرة" لا يمكن التنبؤ سلفاً بتداعياتها على الوطن ككلّ. فإذا كان الثنائي الشيعي مثلاً يتمسّك بصيغة الحكومة التكنو-سياسية، خوفاً من "عزله" ربطاً بالعقوبات الدولية على "حزب الله"، فإنّ "عزل" الحريري لن يكون حلاً في المقابل، وبالتالي فإنّ السير بأيّ حكومة "أمر واقع" لا يكون الحريري مشاركاً في "صنعها" بالحدّ الأدنى، سيكون بمثابة خيار "انتحاري" في هذه الظروف.

يدرك "التيار الوطني الحر" والثنائي الشيعي أنّ هناك بدائل متاحة، ويدرك الحريري نفسه أنّ قاعدة "أنا أو لا أحد" لا تجدي نفعاً، ولكنّ الطرفيْن يدركان في الوقت نفسه أيضاً أنّ "متاهات" اللعبة السياسية الداخلية تفرض الحفاظ على حدّ أدنى من "التوازن"، وإلا فإنّ الحكومة ستتحوّل إلى "عقدة" بدل أن تكون "حلاً"، تماماً كما حصل مع حكومة نجيب ميقاتي في السابق، التي سُمّيت بحكومة "حزب الله" فكانت عبئاً ثقيلاً على الأخير، علماً أنّ كلّ الأجواء توحي بأنّ الذهاب إلى حكومة "مواجهة" اليوم، ولو كان خيار بعض "المبدئيين" في هذا الطرف أو ذاك، ستوقع الأخير في "حصار" لن يكون الخروج منها يسيراً، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.

"الحق عالطليان"!

بعد شهرٍ من الأزمة التي فجّرتها الاحتجاجات الشعبيّة، عادت الأمور إلى الصفر. سقطت "التسوية" التي هلّل لها البعض الأسبوع الماضي، وبقي كلّ طرفٍ متمسّكاً بشروطه، مراهناً على الوقت لفرضها على الآخرين.

إذا كان من معنى لذلك، فهو أنّ الاحتجاجات لم تفعل فعلها بعد. صحيح أنها حققت بعض "الإنجازات" شعبياً على أكثر من مستوى، إلا أنها عجزت، أقله حتى الآن، عن تغيير العقلية والذهنية التي لا يزال بعض المسؤولين يديرون من خلالها الشأن العام.

بين المماطلة والرهان على الوقت، تكاد البلاد تضيع، فيما كلّ الأطراف يتقاذفون كرة المسؤولية، وكأنّ المهمّ ليس إنقاذ البلاد، وتفادي المجهول، بل القول إنّ هذا المجهول هو نتيجة أفعال الآخرين، أو ربما وفق قاعدة "الحق عالطليان"!.