بعد الكثير من الأخذ والردّ، وعلى وقع "الجنون" الذي بدأ الشارع يؤخذ إليه بشكلٍ أو بآخر، حسم رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​سعد الحريري​ موقفه، فأعلن بشكلٍ قاطعٍ عدم "رغبته" في ​تشكيل الحكومة​ ​الجديدة​، رامياً الكرة في ملعب شركائه السابقين، وفي مقدّمهم ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، فضلاً عن الثنائيّ الشيعيّ.

صحيحٌ أنّ "الثمرة" الأولى لموقف الحريري تمثّلت في بدء التمهيد لعقد ​الاستشارات النيابية​ الملزمة المؤجّلة منذ استقالة الرجل، توازياً مع تسريب أسماءٍ بديلةٍ وغير مستفزّةٍ للرجل، بل قيل إنّها تحظى بـ"مباركته"، إلا أنّ علامات استفهامٍ كثيرة طُرِحت حول ترجمة "اعتذاره" في ​السياسة​، خصوصاً على مستوى التعاطي مع الحكومة.

فهل يكون "اعتذار" الحريري فعلاً بمثابة "توطئة للحلّ" الذي لا يملك أيّ من اللبنانيين "ترف" انتظار الفرج لحصوله، أم يكون "الشرارة" التي ستُدخِل البلاد في أتون معركةٍ حكوميّةٍ جديدةٍ، قد تكون أطول من كلّ سابقاتها؟ ولماذا قرأ بعض خصوم الرجل في موقفه هروباً من المسؤولية، بل مناورة ستكشف عن نفسها في القريب العاجل؟!.

رمي للكرة...

ليس سراً أنّ بيان "الاعتذار" المطوَّل الذي أصدره الحريري لتعليل أسباب عدم رغبته في ترؤس الحكومة الجديدة، رمى الكرة في ملعب رئيس الجمهورية الذي دعاه رئيس الحكومة المستقيل صراحةً إلى المبادرة فوراً لتحديد موعدٍ للاستشارات النيابية، تمهيداً لتكليف رئيس حكومة جديد، متمنياً لمن سيتمّ اختياره "التوفيق" الكامل في مهمّته.

أراد الحريري من خلال هذه الخطوة، بحسب ما يؤكد مطّلعون على موقفه، الردّ بشكلٍ مباشر على كلّ الاتهامات التي طاولته خلال الأيام القليلة الماضية، تارةً عن أنّه يتصرّف وفق قاعدة "أنا أو لا أحد"، وهو ما دفعه إلى إطلاق معادلة مضادة قوامها "ليس أنا بل أحد آخر"، وطوراً عن أنّه يسعى من خلال الشارع إلى تحسين شروطه التفاوضيّة، وفرض نفسه مرشحاً وحيداً ل​رئاسة الحكومة​.

لا يرى المقرّبون من الرجل مثل هذه الاتهامات "بريئة"، خصوصاً أنّها جاءت بعد "توتير" غير مبرَّر على خط الشارع، تتحمّل مسؤوليته مجموعاتٌ معروفة الانتماء السياسي والطائفي، نزلت إلى الميدان تحت عنوان التصدّي لقطّاع الطرق، فارتكبت ما هو أفظع من تخريبٍ واعتداءٍ وضربٍ وتكسيرٍ، وذهبت إلى حدّ إطلاق هتافاتٍ مذهبيّةٍ لا طائل منها، بل تسيء إلى أصحابها، وكلّ ذلك من دون أن يصدر بيانٌ واحدٌ، ولو لرفع العتب، يعلن "التنصّل" من هذه المجموعات، أو "التبرؤ" من أفعالها، بعيداً عن بعض التصريحات التي صدرت، من دون أن تسمن أو تغني من جوع.

فإذا كان صحيحاً أنّ الحريري هو الذي يناور عبر الشارع لفرض نفسه مرشحاً أوحد، كما يقول من أصرّوا على التمسّك به خلافاً لإرادته المُعلَنة حتى الأمس القريب، وفق ما يرى مؤيدوه، فلماذا وافق خصومه على "الانجرار" للعبة الشارع، والعمل على توتيره في هذا التوقيت بالتحديد، بعد "صمود" استمرّ أربعين يوماً، علماً أنّ "الاستفزازات" التي يبرّر البعض من خلالها اندفاعه إلى الشارع، ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى اليوم الأول للاحتجاجات، حتى خلال أيام الحراك "النظيف" كما يصفه البعض، أي قبل "تسلّل" الأحزاب إليه، وحرفه عن وجهته.

هروبٌ من المسؤولية!

يقول المحسوبون على "​تيار المستقبل​" إنّ الحريري أعلن صراحةً موقفه الذي كان أبلغه إلى المعنيّين منذ اليوم الأول للأزمة، برفضه تشكيل حكومة "تكنو-سياسية" مهما كانت الظروف، وذلك لوضع حدٍ لكلّ التأويلات التي خضع لها موقفه، والتي وضعته في خانة "الغنج والدلال" لفرض نفسه مرشحاً وحيداً وإحراق كل الأسماء البديلة المفترضة.

ولكنّ خصوم الرجل الذين استوقفهم صدور بيان الحريري بعد ساعاتٍ من خسارته دعم رئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​، الذي أعلن بوضوح أنّه لم يعد متمسّكاً بأيّ اسمٍ لرئاسة الحكومة، في رسالةٍ غير مشفّرة وُجّهت إلى رئيس الحكومة المستقيل مباشرةً، يخشون أن لا يكون موقف الحريري سوى "مناورة" من شأنها هدر المزيد من الوقت، قبل العودة إليه بوصفه "المنقذ"، الأمر الذي يراهن عليه الحريري، وهو ما سبق أصلاً أن قاله صراحةً لرؤساء الحكومات السابقين، وفق بعض التسريبات المتداولة.

ولعلّ أكثر ما أثار حفيظة خصوم الحريري أنّ الرجل، في بيان "اعتذاره" كما في البيان "الاستلحاقي" الذي أصدره، تعمّد إبقاء موقفه من الاستشارات النيابية "مبهَماً وضبابياً"، ما يترك كلّ السيناريوهات واردة، بما فيها ذهابه إلى المعارضة، وبالتالي عدم "تغطيته" الحكومة المقبلة، بما يحوّلها تلقائياً إلى حكومة لونٍ واحدٍ ومواجهةٍ، وهو ما يرفضه الثنائيّ الشيعيّ و"​التيار الوطني الحر​"، لقناعتهم بأنّ مثل هذه الحكومة لن تنجح في تحقيق أهدافها في هذه المرحلة، خصوصاً في ظلّ التحدّيات "الضخمة" التي تنتظرها.

ومن هنا، يمكن فهم مغزى تمسّك هؤلاء بالحريري خلال المرحلة المقبلة، على رغم كلّ التحفّظات على أدائه، والتي بدأت تخرج إلى العلن على لسان الكثير من شركائه السابقين، الذين لم يتردّد بعضهم في اتهامه صراحةً بالتورّط في ملفّات ​الفساد​، كما فعل عددٌ من نواب "الوطني الحر" الذين دانوا أنفسهم بتهمة "غضّ النظر". فهؤلاء يرفضون أن يكون الحريري في موقع "الشاهد" أو "المتفرّج" في أدقّ المراحل، خصوصاً أنّ فريقه السياسيّ هو الذي يتحمّل مسؤوليّةً أساسيّةً في وصول الأمور إلى ما وصلت إليه، وبالتالي فمن غير المسموح مثلاً أن يغسل يديه من أيّ "انهيارٍ" إن حصل لا سمح الله، على قاعدة أنّه في المعارضة، وأنّه لو مُنِح ما يريد من صلاحيّات، كان سيستطيع تفاديه وإنقاذ البلاد من تداعياته!.

"ثورة ذاتية"!

إزاء كلّ ما سبق، يبدو لكثيرين، ممّن يتمنّون أن يكونوا على خطأ، أنّ "اعتذار" الحريري مجرّد فصل آخر من مسرحيّةٍ هزليّةٍ لم يشعر أيّ من أبطالها بحجم التحديات الملقاة على عاتقهم، وهم يخوضون سباقاً بلا هوادة مع الانهيار الذي تذهب البلاد إليه بحزمٍ وثبات.

فبين اتّهامٍ يوجَّه إلى الحريري بـ "التدلّل والغنج" لتصوير نفسه "منقذاً" وحيداً لا بديل عنه، وبين محاولة رئيس الحكومة المستقيل الهروب إلى الأمام، لا تزال لعبة تقاذف كرة المسؤولية بين أصحاب القرار والمعنيّين بالحلّ هي السائدة، كما كانت على امتداد السنوات السابقة.

لذلك، فإنّ المطلوب اليوم قد يكون "ثورة ذاتيّة" من أهل الحكم على أنفسهم أولاً، "ثورة" يمكن لـ"اعتذار" الحريري، حتى لو كان "مناورة"، أن يكون شرارتها الأولى، لأنّ المماطلة لم تعد تجدي، ولا توزيع المسؤوليات والاتهامات يميناً وشمالاً...