بعد الذي جرى يوم الأحد الماضي وقبل 24 ساعة من موعد ​الاستشارات النيابية​ التي كان رئيس الجمهمرية دعا اليها بتاريخ 9/12/2019 لاختيار مَن يوكل اليه أمر ​تشكيل الحكومة​ في ​لبنان​. وبعد الإطاحة بكل الاتفاقات السابقة بين كتل الأكثرية النيابية ورئيس الكتلة السنية الكبرى،، بعد كل هذا لم يعد مسموعاً ولا جائزاً ان يسمع أولئك المتباكون على الدستور و​اتفاق الطائف​ وصلاحيات رئيس الحكومة، حيث إن الإعلان وعن لسان مفتي الجمهورية (رئيس ​الطائفة السنية​ الديني) بأن الطائفة السنية أجمعت على شخص محدد لا منازع له ولا شريك لتشكيل الحكومة وأن هذا الشخص وحده دون سواه مطلقاً مخوّلاً بهذه المهمة ولا يقبل أحد سواه رئيساً للحكومة؛ هو أمر في غاية الخطورة لأنه بكل بساطة يطيح بالدستور ويطيح بدور ​المجلس النيابي​ في اختيار رئيس الحكومة ويفرض ديكتاتورية مذهبية على أكثرية وطنية ويسقط النظام السياسي المنصوص عليه في الدستور.

صحيح أن مبدأ العيش المشترك المنصوص عليه في ​الدستور اللبناني​ يفرض احترام حقوق ​الطوائف​ وخصوصياتها وموقعها في ​السلطة​، ولكن الصحيح أيضاً وقبل ذلك يجب ان تُحترم قواعد تشكيل السلطة كما ينص الدستور أيضاً أي أن تُحترم نتائج ​الانتخابات​ ويكرّس حق الأكثرية في أن تختار من يتولى السلطة باسمها وان لا يُملى عليها أمر خلافاً لإرادتها، ويكون من المنطقي عملياً أن تختار الأكثرية النيابية التي جاءت بها الانتخابات شخصاً من بين أشخاص عديدين مؤهلين ومرشحين للمنصب وبمقتضى العيش المشترك، ليتولى تشكيل الحكومة، ولا يكون مقبولاً أن تعتمد الطائفة في اختيار من يمثلها شعار “هذا أو لا أحد”، لأن في هذه الحصرية الفردية الأحادية إلغاء لحق الأكثرية في تولي السلطة وإطاحة بنظام الحكم البرلماني الديمقراطي. وبالتالي يكون القبول بما حصل في ​دار الفتوى​ من تأكيد جاء على لسان مفتي الجمهورية بحصرية الاختيار في شخص واحد لتولي ​رئاسة الحكومة​ من دون اكتراث بما تقبل به الأكثرية النيابية أو ترفضه ودون التوقف عند الاستشارات النيابية التي يفرضها الدستور فإنه بكل بساطة يشكل سابقة تختصر بالقول “دستور لبنان لا يطبق”.

وإذا عطفنا خرق الدستور هذا على ​حالات​ مماثلة وعلى يد آخرين فإننا نصل الى مشهد يجب الإقرار به والاعتراف به، مشهد يقول إن دستور لبنان في مكان والممارسة السياسية العملية في مكان آخر. وهذا التنافر بين النص والتطبيق هو برأينا السبب الرئيسي الذي قاد الى المآسي التي يتخبّط فيها لبنان والتي حوّلت الشعب الى شعب جائع ومَن يتولى المسؤولية الى متسوّل بعد أن مارس هو ومعظم من تولى السلطة عملية النهب الفاجر لثروات لبنان وأمواله العامة وبعض الأموال الخاصة. ما جعل كثيراً من الشعب يخرج الى الساحات رافضاً هذا الواقع مطالباً بالإصلاح وبتحقيق الحد الأدنى من الحقوق المعيشية للمواطن.

وعليه فإن مشكلة لبنان تكمن في الخروج عن الدستور، وتعطيل القانون والإطاحة بمبدأ المراقبة والمحاسبة وعدم احترام حقوق الآخر ما أتاح لمتولي السلطة ممارسة النهب والسرقة وهم آمنون مطمئنون الى طائفة ترسم حولهم الخطوط الحمر وتمنع محاسبتهم وتشرّع جرائمهم وأجهزة محاسبة عاجزة أو معطلة تمتنع عن محاسبتهم. اما الحل برأينا فيجب أن يكون واحداً من اثنين:

إما جعل الممارسة العملية مكرّسة بنصوص دستورية. وهذا يقتضي تعديل الدستور وتغيير النظام السياسي المنصوص عليه دستورياً الآن لإقامة نظام فيدرالية الطوائف كما هو قائم عملياً اليوم في إطار الدولة الواحدة. وعندها تأخذ الطائفة ما لها وتؤدي ما عليها ودون تجاوز من طائفة على أخرى.

أو تطبيق الدستور في المواد التي لا خلاف عليها وإجراء نقاش لإجلاء غموض ما يدور الخلاف حوله من مواد دستورية، ليخلص الجميع الى قرار ناجز معجّل التنفيذ تحت عنوان بناء ​الدولة المدنية​ الواحدة العادلة القادرة، التي يدخل اليها مباشرة ولا يكون الانتماء اليها عبر الطائفة.

نعم إن الحل يجب ان يكون واحداً من أمرين : اما دولة الطوائف (ونحن نرفضها، لأنها انتهاك لوحدة الدولة ولأسباب أخرى)، والدولة العصرية المدنية التي تتماشى وروح العصر وتؤمن العدالة والمساواة بين المواطنين، وإن الوصول الى هذا الحل لا يكون بالمعالجة التقليدية البسيطة، بل يستلزم قراراً جريئاً قد يكون عبر ​المؤسسات الدستورية​ القائمة مع احترام قواعد الدستور وأصول تعديله وإشراك ​المجتمع المدني​ في الرأي مع عرض كل ما يتمّ التوصل إليه من حلول على الشعب في استفتاء شعبي نزيه وحقيقي، أو يتم عبر مؤسسات موازية قد تكون مؤتمراً تأسيسياً تشارك فيها السلطة و​الحراك الشعبي​ والمعارضة من دون ان يكون للعامل الخارجي دور او موقع فيه، وكذلك يجب عرض نتيجة الأعمال على الشعب.

أما المرحلة الانتقالية فيمكن إدارتها من قبل حكومة مختصرة تشكل بالآليات الدستورية الحالية وتقبل بها الأكثرية دون ان تشكل استفزازاً للآخرين. نقول هذا مع لتأكيد ان الاستمرار في التهرب من الحقيقة ودفن الرأس في الرمال أمر من شأنه انهيار لبنان ومن فيه، بمن فيهم أولئك المعطلون المتلاعبون بمصير الناس والممارسون لأبشع سلوكيات الابتزاز والاستفزاز ومخالفة الدستور والقوانين.