ما أَشبه الوضع السِّياسيُّ في لبنان الآن، بالوضع الَّذي كان قائمًا في العام 1983، بعدما انتُخِب النَّائب أَمين الجميِّل رئيسًا للجمهوريَّة، بعد استشهاد الرَّئيس بشير الجميِّل. وقد حصل وقتها على تأْييدٍ شعبيٍّ عارمٍ، وقُدِّم إِليه "حليب العصفور" الَّذي يُقدَّم الآن إلى رئيس الحكومة المُستقيلة ​سعد الحريري​...

وقتها لم يُحسن الرَّئيس الأسبق أَمين الجميِّل الاستفادة من الظَّرف، لتجيير هذا التَّأْييد، في خانة بناء دولةٍ كان يطمح الرَّئيس بشير الجميِّل في بنائِها، وتكون قادرةً على العُبور بلبنان إِلى القرن الواحد وعشرين، وبحجم طُموح شُهداء الحرب العبثيَّة على أَرض الوطن، كلِّ الشُّهداء، وبِغضِّ النَّظر عن مكان ارتقائهم إِلى رتبة الشَّهادة، أَو القناعة الَّتي آمنوا بها حتَّى الاستشهاد!. حينها–وبسبب الأَخطاء السِّياسيَّة، كانت "انتفاضة 6 شباط"، الَّتي حمل لواءَها حينذاك رئيس "حركة أَمل" نبيه برِّي.

وأَمَّا رئيس المجلس النّيابي نبيه برِّي، فهو ينقل اليوم "حليب العُصفور" إِلى رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، مع تسجيل مُلاحظةٍ مفادُها أَنَّ السُّلطة "المُطلقة" كانت في الـ83 في يد رئيس الجُمهوريَّة، وأَمَّا اليوم فهي في يد "رئاسة الحُكومة مُجتمِعةً"، بحسب ما نصَّ عليه "اتِّفاق الطَّائف"...

غير أَنَّ الحريري لم يأْخذ بنصيحة كثيرين، في عدم "إِشهار" استقالة حكومته سريعًا، بعد تفجُّر الحراك المطلبيِّ والاعتراضيِّ في الشَّارع، في 17 تشرين الأَوَّل الماضي، ريثما تُعالج الأُمور بالحكمة والتّبصُّر... إِلى أَن اتَّهمه البعض بالهُروب إِلى الأَمام، بدلاً من تحمُّل المسؤوليَّة!.

كما وأَنَّ الحريري لم يُظهر تجاوبًا إِلى الآن مع برِّي القائِل له: "أَنا معك غصبًا عنك"... ولا مع الأَمين العامِّ لـ"حزب الله" السَّيِّد ​حسن نصر الله​، المُبدي كلَّ استعدادٍ صادقٍ لدعم الحريري بالكامل، في مهمَّة انتشال لبنان من التَّخبُّط اللاحق به، وسط شارعٍ مُنتفضٍ يرفع شعار "كلُّن يعني كلُّن"!.

وبطبيعة الحال فإِنَّ الحريري ما تجاوب أَيضًا مع رئيس الجمهوريَّة العماد ​ميشال عون​، الَّذي أَخَذ على نفسه تلقُّف كرة نار تأْخير إِجراء الاستشارات النِّيابيَّة المُلزِمة، لا بل أَشعل في ​بعبدا​، كلَّ محرِّكاته، بهدف إِزالة عوائق التَّشكيل من أَمام طريق التَّكليف، تسهيلاً لمهمَّة الحريري وإِنجاحًا لحُكومته الموعودة!...

إِلاَّ أَنَّ "الحِكمة" الَّتي لم تُفهم إِلى الآن: ما هي مصلحة الحريري في استبعاد رئيس "التيَّار الوطنيِّ الحرّ" الوزير ​جبران باسيل​، عن حكومته ​الجديدة​، وبالتَّالي إِقصاء "التيَّار" عنها؟ قد يكون ذلك من مصلحة باسيل لا الحريري، إِذ يُوفِّر للأَوَّل أَفضل الظُّروف للانكباب على مُكافحة ​الفساد​ ومُلاقاة الشَّارع "المكوي" بنار الفساد والإهدار والمحسوبيَّات...، مُتحرِّرًا من عبء الائتلاف الحُكوميِّ وتَضامُنه... فيؤَدِّي باسيل إِذَّاك –كما التيَّار– دورهُما النِّيابيّ على أَكمل وجه، ما قد يُفجِّر "انتفاضة 6 شباط" جديدة، على حلبة البرلمان هذه المرَّة...

هي انتفاضةٌ سياسيَّةٌ لا دمويَّة، على خلفيَّة ملفَّاتٍ تُزكم الأُنوف برائحة فسادها، لن يجد باسيل بعد اليوم أَيَّ حَرَجٍ في الكشف عنها، كما ولن يستطيع أَحدٌ في المُقابل حماية الفاسدين أَو التَّستير عليهم، إِذ إِنَّ الشَّعب لهم في المرصاد!...

وما مصلحة الحريري في التَّفرُّد بخطَّةٍ إِنقاذيَّةٍ، أَقلّ ما يُقال فيها إِنَّها تحتاج إِلى حنكةٍ سياسيَّةٍ ما بعدها حنكة... فكيف بالحري إِذا كانت الخطَّة الموعودة تلك، على شاكلة "الورقة الإِصلاحيَّة" الَّتي أَعدَّها الحريري قُبيل استقالته؟، إِذَّاك يصحُّ القول الشَّعبيُّ: "تخبزون في الأَفراح"!...

نقول ذلك إِذا كان الحريري قادرًا على تشكيل الحُكومة من دون "التيَّار الوطنيِّ الحُرّ"، فماذا لو لم يستطع التَّأْليف؟ عندها قد يدخل الحريري في المحظور، ويغيب إِذَّاك أَيّ بصيص أَملٍ في إِعادة النُّهوض، وسط النَّفق المظلم الدَّاكِن...

لقد حرَّر الحريري باسيل، من قُيود "التَّضامن الحُكوميِّ"، في خُطوةٍ ستكون حتمًا مُكْلفة على الحريري، ليس من باب الانتقام والتَّشفِّي، بل التّموضع المُؤَمِّن أَفضل الشُّروط لتطبيق التَّشريعات ذات الصِّلة بمُكافحة الفساد وقانون الإِثراء غير المشروع...

إِنَّ الوضع اللُّبنانيَّ الفائق الدِّقَّة اليوم، يُحتِّم على كلِّ "اللاعبين السِّياسيِّين"، عدم اقتراف "الأَخطاء السِّياسيَّة المُميتة"، الَّتي يستحيل محوها أَو إِزالتها في سهولةٍ... هي نصيحةٌ قد يكون رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري الأَحوج إِليها!.

رزق الله الحلو