منذ عام 1974 ساد وهم في الساحة ال​فلسطين​ية بإمكانية تحقيق حلّ سلمي للصراع مع كيان الاحتلال الصهيوني، من خلال المفاوضات معه بوساطة ​الولايات المتحدة​ والدول الأوروبية، وقد تحوّل هذا الوهم إلى ​سياسة​ رسمية لقيادة ​منظمة التحرير الفلسطينية​ التي قرّرت اثر الاجتياح الصهيوني ل​لبنان​ عام 1982 ان تغادر ​بيروت​ مقابل وعود أميركية بالاعتراف بمنظمة التحرير، والشروع في مفاوضات سرية مع مسؤولين صهاينة شارك فيها رئيس السلطة ​محمود عباس​ الذي كان آنذاك مسؤول ملف المفاوضات السرية، وهو أمر اعترف به لاحقاً في كتاب له… وأسفرت هذه المفاوضات، في نهاية المطاف، عن اتفاق في مدينة ​أوسلو​ عاصمة النروج… سُمّي اتفاق غزة ـ ​أريحا​، وقضى بإقامة حكم ذاتي محدود تديره سلطة فلسطينية، كمرحلة مؤقتة، تجري خلالها مفاوضات للاتفاق على الحلّ النهائي لقضايا الصراع الجوهرية، وهي ​حق العودة​ للاجئين ​الفلسطينيين​، و​القدس​، وإقامة ​الدولة الفلسطينية​ في ​الضفة الغربية​ و​قطاع غزة​ وتكون عاصمتها ​القدس الشرقية​، مقابل ذلك اعترفت قيادة المنظمة بوجود «إسرائيل» على الأرض الفلسطينية المحتلة عام 48 متنازلة بذلك عن 78 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية للمستعمرين الصهاينة، ووقف ​الانتفاضة الفلسطينية​ الأولى التي اندلعت عام 1978، وإلغاء كلّ البنود الواردة في الميثاق الوطني والقومي التي تتحدّث عن حق ​الشعب الفلسطيني​ بتحرير كامل ​فلسطين المحتلة​ من النهر إلى البحر، والتخلي أيضاً عن المقاومة المسلحة ضدّ الاحتلال، والتعاون أمنياً بين ​السلطة الفلسطينية​ و​الأجهزة الأمنية​ الصهيونية لحماية أمن الاحتلال، ومنع أيّ تحريض ضدّ «إسرائيل»، وذلك على أمل أن تحصل قيادة المنظمة، على إقامة دولة فلسطينية على الأرض الفلسطينية التي احتلت عام ٦٧.. لقد حصلت ​الحكومة​ الصهيونية بموجب هذا الاتفاق على أكثر مما كانت تحلم فيه، ولم تكن تتوقع أن توافق منظمة التحرير على الاعتراف بوجود «إسرائيل»، وتغيير الهوية النضالية لمنظمة التحرير، لتصبح منسجمة مع الشروط الأميركية الصهيونية.. لقد كان الاتفاق فخاً اسرائيلياً أميركياً استدرجت إليه قيادة المنظمة، التي برّرت كلّ هذه التنازلات الخطيرة، بأنها ستقود إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام ٦٧، وبالتالي إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض فلسطينية، من خطر التهويد.. لكن كان ذلك وهماً ليس إلا.. لأنّ المحتلّ لا يمكن أن يخرج من أرض احتلها عبر المفاوضات، بل انّ كلّ تجارب الشعوب التي احتلت واستعمرت أوطانها، لم تحرّر الا ب​المقاومة الشعبية​ المسلحة.. لقد عرف المسؤولون الصهاينة، وفي مقدّمتهم، إسحاق شامير و​شيمون بيريز​، كيف يستغلون هذا الاتفاق جيدا، فأخذوا منه كلّ ما يحقق أهدافهم، وماطلوا وامتنعوا عن تنفيذ كلّ ما يُلزمهم به الاتفاق.. حتى انّ قيادة منظمة التحرير لم ترد الانتباه لما قاله إسحاق شامير من أنه سيفاوض من أجل المفاوضات.. وهو رفع اللاءات الصهيونية الثلاث، لا تقسيم للقدس، لا لحق العودة ولا لإقامة دولة فلسطينية على حدود 67، وحين قال ذلك شامير كان يترأس الوفد الصهيوني للمفاوضات في ​مدريد​، وهو رئيس الحكومة الصهيونية… فيما كانت المفاوضات السرية، الفلسطينية الصهيونية، تجري في السر وبعيداً عن الاضواء… ويبدو انّ قيادة منظمة التحرير لم ترد ان تأخذ تصريحات شامير على محمل الجدّ، وانها تعبّر عن لاءات المستعمرين الصهاينة، لأنها كانت أسيرة الوهم والوعود التي تلقتها من المسؤولين الأميركيين.. متناسية انّ الولايات المتحدة دولة استعمارية وتقف إلى جانب كيان الاحتلال، ركيزتها لتحقيق أهدافها الاستعمارية في الوطن العربي لمواصلة نهب ثروات العرب ​النفط​ية.. وهذا ما حصل، لقد لعبت ​واشنطن​ دور بيع الوهم، وساعدها في ذلك بعض الحكام العرب التابعين للولايات المتحدة..

وكانت المفاوضات بين المنظمة والحكومة الصهيونية تتمّ على ​القاعدة​ التي حدّدها شامير، مفاوضات من أجل المفاوضات، فيما الاحتلال الصهيوني كان يبني المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، وكان يتم ذلك في زمن حكم حزب العمل، كما في زمن حكم تكتل الليكود، حتى باتت المستوطنات تملأ الضفة والقدس على نحو غير مسبوق.. فتحوّلت المفاوضات إلى مسرحية وملهاة ليس إلا، توفر الغطاء للحكومة الصهيونية لتنفيذ مشروع تهويد الضفة والقدس…

وعندما جرت مفاوضات ​كامب ديفيد​ حاولت واشنطن ان تسوّق الشروط الصهيونية، والضغط على الرئيس ​ياسر عرفات​ للتخلي عن التمسك بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية الموعودة، وكذلك التخلي عن حق العودة، لكن عرفات رفض ذلك، وعندما عاد الى ​رام الله​ وحاول العودة إلى ممارسة تكتيك جديد يقضي بالسماح بطريقة غير مباشر لعودة العمليات الفدائية، في مواجهة الضغوط الصهيونية الأميركية لفرض الاستسلام عليه، عمدت حكومة العدو إلى دسّ السمّ له عبر عملاء لها واغتياله في مقرّه الرئيسي.. وبدل ان يتعظ الرئيس محمود عباس، الذي تسلّم رئاسة السلطة، ويعيد النظر في نهج المفاوضات – الملهاة، ويكشف كيف تمّ اغتيال عرفات، استمرّ في الرهان على المفاوضات وبيع الوهم.. إلى أن وصلنا إلى الإعلان الأميركي الصهيوني عن جريمة «​صفقة القرن​» التي وضعت نهاية لاتفاق أوسلو، وقرّرت حسم قضايا الصراع الأساسية لمصلحة وجهة النظر الصهيونية، التي أعلن عنها شامير عشية الإعلان عن اتفاق أوسلو عام 1993، فقرّرت الصفقة – المؤامرة ان تجعل القدس عاصمة موحدة للدولة الصهيونية، وضمّ المستوطنات الكبرى والصغرى بما فيها غور الأردن الى الكيان الصهيوني، والتخلص من الفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 48 عبر مخطط الترانسفير، لتكون الدولة الصهيونية صافية عنصرياً.. مقابل إقامة دولة فلسطينية تشمل المناطق السكانية الفلسطينية في الضفة وقطاع غزة على أن يُقام طريق يصل بين الضفة وغزة، على أنّ هذه الدولة منزوعة ​السلاح​ والسيادة وتحت الحماية الصهيونية..

وكما تمّ تسويق اتفاق أوسلو بأنه سيجلب الازدهار ويجعل غزة ـ أريحا ​سنغافورة​ ​الشرق الأوسط​، يجري الترويج لهذه الصفقة بإغراءات مالية تقدّر بـ 50 مليار ​دولار​ ستدفع ٧٠ بالمائة منها ​دول الخليج​، ايّ يريدون شراء الأرض والحقوق بأموال النفط العربي، وإقناع قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بالموافقة على البيع مقابل هذه الرشوة المالية، ايّ التوقيع على صك بيع فلسطين والمقدسات للصهاينة والإقرار أنها حق لهم، وبالتالي تكريس الرواية الصهيونية بأنّ أرض فلسطين إنما هي وطن الصهاينة، ولا حق للشعب الفلسطيني فيها.. لقد أسقطت جريمة القرن هذه، الوهم الذي زرع على مدى أكثر من أربعة عقود، باللهاث وراء حلّ سلمي مع كيان الاحتلال الصهيوني، يقضي بتقاسم أرض فلسطين..

والمطلوب اليوم أن تقتنع قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية بسقوط هذا الوهم نهائياً من الأذهان، والتوقف عن انتظار الحلّ السلمي مع عدو، الصراع معه صراع وجود.. كما أنّ المطلوب العودة إلى الاقتناع بأنّ الأرض والحقوق لا تستعاد عن طريق الدخول في بازار المساومات، لأنّ الحق لا يجزأ، ومن يسلبك الأرض لا يمكن أن يعيدها إليك في سوق المساومات والمفاوضات، وإنما تستعاد منه بقوة المقاومة الشعبية المسلحة، وعبر التمسك بالحقوق كاملة ورفض المساومة عليها، هذا هو الدرس الذي يجب استخلاصه من ​مسيرة​ اتفاق أوسلو المشؤوم، والذي زرع الوهم، الذي أفضى إلى صفقة قرن هدفها استكمال الاستيلاء على كامل الحق العربي في فلسطين المحتلة وتهويدها.. ولهذا فإنّ الخروج نهائياً، من نفق أوسلو، إنما يشكل بداية أخذ العبر من هذا الدرس القاسي، للتخلص من وهم اللهاث وراء حلول سلمية لا تنتج إلا استسلاماً وضياعاً للحقوق.. وبالتالي إعادة ردّ الاعتبار للدروس التي اكدتها تجارب المقاومات الشعبية المسلحة الظافرة.. ما أخذ بقوّة المحتلّ والمستعمر، لا يستردّ إلا بقوة المقاومة الشعبية المسلحة.. على غرار ما حصل في ​جنوب لبنان​ وقطاع غزة.. على انّ اهمّ النتائج لإعلان صفقة القرن انها انهت مسرحية الخداع الأميركي والزعم بوجود اختلاف بين ​أميركا​ وكيان العدو، وأسقطت أوهام المراهنة على المفاوضات، وعززت خيار المقاومة، في وقت يعاني فيه المشروع الأميركي الصهيوني من الإخفاقات المتتالية في مواجهة محور المقاومة، مما سيقود إلى مزيد من مفاقمة أزمة الكيان الصهيوني الوجودية، النابعة من تزايد عجز وتآكل قوته الردعية…