لا يختلف إثنان أنّ القوى الحزبيّة اللبنانيّة كافّة تعيش حاليًا مرحلة صعبة جدًا، حيث أنّ العلاقات في ما بينها سيئّة بالإجمال، وعلاقاتها مع الناس والرأي العام سيّئة أيضًا، وحتى علاقاتها مع جُمهورها ومُحازبيها ليست بأفضل أحوالها! لكن وفي خضّم هذه الأجواء، وفي الوقت الذي تُعاني فيه قوى "14 آذار" السابقة من تشتّت كبير، هو الأخطر منذ العام 2005، يجهد "حزب الله" من وراء الكواليس لجَمع قوى "​8 آذار​" السابقة، بتحالفها العريض مع "التيّار الوطني الحُرّ"، لهدف مُحدّد. فما هي الصُورة في هذا السياق؟.

بالنسبة إلى قوى "14 آذار" السابقة، شكّل الإختلاف في وجهات النظر بين كلّ من تيّار المُستقبل وحزب ​القوّات اللبنانيّة​، بشأن أسلوب التعاطي مع عمليّة تشكيل الحُكومة الجديدة ومع الإحتجاجات والمطالب الشعبيّة الغاضبة، وتاليًا عدم تسميّة القوات لرئيس ​الحكومة​ السابق ​سعد الحريري​ لتشكيل الحكومة، النقطة التي أفاضت كأس التوتّرات بين الطرفين، بحيث تكرّس التباعد الصامت بين القوّتين السياسيّتين اللتين كانتا في يوم من الأيام تشكّلان العمود الفقري لقوى "14 آذار". وحتى الساعة، لم تنجح الجُهود في إعادة وصل ما إنقطع، في ظلّ تركيز المعنيّين على إهتمامات أخرى(1)، مع التأكيد على بقاء التموضع السياسي العريض الذي يجمع الطرفين قائمًا. وجاء هذا التطوّر في الوقت الذي يتصرّف فيه ​الحزب التقدمي الإشتراكي​ الذي كان في الماضي أوّل المُنسحبين من قوى "14 آذار"، بشكل رمادي و"على القُطعة"–إذا جاز التعبير، رافضًا بشكل مُطلق أي تقوقع سياسي ضُمن تحالفات ضيّقة–كما خلال مرحلة الإنقسام العَمودي في لبنان بعد "ثورة الأرز". وعلى الرغم من التواصل والتنسيق المُستمرّين بين الإشتراكي والقوات، فإنّ الأخيرة حاولت رفع مُستوى العلاقة مع الإشتراكيعندما جرى التحضير لزيارة لرئيس القوات ​سمير جعجع​ إلى "الجبل"، لكنّ الإشتراكي لم يُلاقِ اليد القوّاتيّة المَمدودة نحوه، حيث تعمّد النائب ​تيمور جنبلاط​ زيارة رئيس التيّار الوطني الحُر الوزير السابق ​جبران باسيل​ في التوقيت نفسه، ما أسفر عن إلغاء جولة "الحكيم" في الشوف. واليوم، تُعتبر العلاقة بين القوات والإشتراكي عاديّة، من دون أن ترقى إلى أيّ تحالف سياسي. وعلاقة الإشتراكي مع المُستقبل ليست أفضل حالاً، حيث أنّها تشهد "هبّة باردة" تارة، و"هبّة ساخنة" تارة أخرى، علمًا أنّ الإشتراكي يسعى لإستعادة دوره المَفقود ضُمن المُعادلة اللبنانيّة، من خلال التنسيق مع رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي، في أكثر من ملفّ، بالتزامن مع إستمرار إعتماده نهج المُهادنة مع "حزب الله". ولا حاجة للتذكير، أنّ العلاقة مع الأحزاب الصغيرة التي كانت في ما مضى، جزءًا من تحالف قوى "14 آذار" السابقة، وفي طليعتها ​حزب الكتائب اللبنانية​، صارت تُغرّد وحيدة، في ظلّ إستمرار التوتّر في العلاقات الثنائية مع باقي الأحزاب. وحتى العلاقة الشخصيّة بين الأحزاب وبعض الشخصيّات المُستقلّة التي كانت مُنضوية ضُمن تحالف "14 آذار"، لا تزال غير سليمة على الإطلاق.

في المُقابل، وعلى الرغم من أنّ العلاقة بين التيّار الوطني الحُر وقوى "8 آذار" السابقة، ليست في أفضل أحوالها، ولا تشبه العلاقة خلال المرحلة التي تلت توقيع تفاهم 6 شباط 2006(2)، فإنّ "حزب الله" يتولّى من وراء الكواليس، ضبط الخلافات والتباين في الآراءعلى مُستوى الشؤون الإقتصاديّة والماليّة وإدارة الدولة ككلّ وبعض الملفّات السياسيّة أيضًا، مَنعًا لإنفراط التفاهم السياسي العريض الذي كان قائمًا في السابق بين التيّار الوطني الحُر وقوى 8 آذار. ويلعب رئيس مجلس النوّاب دورًا أساسيًا في تنسيق بعض الخطوات الميدانيّة، لهذه القوى السياسيّة، لأهداف مُشتركة. فالتيّار الوطني الحُرّ حريص كلّ الحرص على مُواجهة كل المُحاولات الرامية إلى إفشال عهد ​الرئيس ميشال عون​، و​الثنائي الشيعي​ يعمل ليل نهار على تثبيت التحوّل السياسي الذي شهده لبنان خلال العقد الأخير، حيث إنتقل الحُكم بشكل تدريجي من يد قوى "14 آذار" إلى حُكومات مُشتركة بأغلبيّة من "14 آذار" بداية، ثم بأغلبيّة من "8 آذار" في مرحلة لاحقة، وُصولاً إلى المرحلة الحالية التي قامت فيها أحزاب قوى "8 آذار" والتيّار الوطني الحُرّ، بتكليف رئيس الحكومة الحالي الدُكتور حسّان دياب، وبتسمية وزراء الحُكومة كلّهم. والعمل قائم حاليًا من خلف الكواليس أيضًا، لتأمين أغلبيّة نيابيّة عدديّة كافية، لنيل الحكومة الجدية الثقة. وبحسب المعلومات المُتوفّرة فإن رئيس ​حركة أمل​ يعمل بشكل متواصل لتأمين ما بين 66 إلى 68 صوتًا نيابيًا لصالح حُكومة دياب، خلال جلسة التصويت على الثقة مطلع الأسبوع المقبل، فيحين يعمل "حزب الله" على تذليل أيّ إعتراضات في صُفوف قوى "8 آذار" على الحكومة، وأيّ خلافات بين القوى الداعمة لها، لا سيّما بين تيّاري ​المردة​ والوطني الحُرّ، وهو يعمل أيضًا على مُعالجة بعض الحزازيّات الحزبيّة والمناطقيّة الضيّقة وحتى الشخصيّة، وذلك إنطلاقًا من ضرورة إحتفاظ كل القوى المَعنيّة بالإنجاز السياسي المُتمثّل بالقبض على ​السلطة​ السياسيّة في لبنان، ولوّ أنّ العناوين الإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة هي التي تتقدّم على سواها في المرحلة الراهنة، بحيث يبدو العنوان السياسي مَحجوبًا، وخارج إهتمامات الناس والمسؤولين على السواء، لكنّ هذا الإحتجاب الظاهر لا يُلغي حقيقة وُجوده عمليًا! وحتى خطوة إستمرار التنسيق بين "الثنائي الشيعي" والمُستقبل، مدروسة بعناية، ليس حُبًا برئيس الحكومة السابق سعد الحريري، بل تجنّبًا لتأسيس مُعارضة سياسيّة ونيابيّة مُتماسكة وكبيرة جدًا، يُمكن أن تتكامل عندها مع الضُغوط الخارجيّة التي يتعرّض لها لبنان، بشكل يؤدّي حُكمًا لإفشال أي سُلطة تنفيذيّة قائمة، مهما كانت قويّة.

في الخُلاصة، الواقع السياسي في لبنان تغيّر بشكل جذري، لكنّ المُواطنين بمُختلف توجّهاتهم السياسيّة غير آبهين بهذا التحوّل، وتركيزهم حاليًا هو على لقمة عيشهم، وعلى مُستقبلهم ومُستقبل عائلاتهم المُهدّد، ويبحثون عن أيّ ضوء أبيض في نهاية هذا النفق المُظلم، بعيدًا عن الإصطفافات السياسيّة التي قسّمتهم في الماضي.

ناجي س. البستاني

(1) منها شؤون حزبيّة داخل كل حزب وتيّار، ومنها ما له علاقة بإرضاء الشرائح الشعبيّة ومطالبها الحياتيّة والمعيشيّة.

(2) تاريخ توقيع إتفاق التفاهم بين أمين عام "حزب الله" السيّد ​حسن نصر الله​ ورئيس التيّار الوطني الحُرّ (في حينه) العماد ميشال عون.