منذ خروجه من الحكم بطعنةٍ مزدوجةٍ تلقّاها من كلٍ من حليفيْه السابقيْن، "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، بدا واضحاً أنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري انطلق بـ"مراجعة ذاتيّة"، لا لتقييم أداء المرحلة السابقة بما حملته من اهتزازاتٍ فحسب، ولكن أيضاً للتحضير لمرحلةٍ جديدةٍ تختلف عمّا سبق.

ولعلّ التسريبات حول ما يحضّره الحريري لذكرى اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري الجمعة المقبل، تختزل بين طيّاتها العنوان الأبرز لهذه المرحلة، ألا وهو "الطلاق الكامل" مع "العهد" ممثَّلاً برئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، الذي لم يُدعَ أيّ من قياديّيه ومسؤوليه إلى الذكرى، بخلاف العادة.

وخلف هذه "القطيعة" مع "التيار" الذي ربطته به تسوية تحكّمت بكلّ مفاصل الحياة السياسية على امتداد السنوات الثلاث الماضية، عنوانٌ آخر يبدو واضحاً لـ"المراجعة الحريريّة"، ويتمثّل بإعادة الحرارة إلى العلاقة مع "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بعدما كادت تسقط، من دون أسف، ضحيّة "التسوية الرئاسية" نفسها...

الطلاق وقع!

تُجمِع كلّ التسريبات حول الاحتفال الذي ينظمه تيار "المستقبل" في ذكرى الرابع عشر من شباط، على جري عادته كلّ عام، بأنّ عنوانه الأساسي سيكون "الطلاق" مع "التيار الوطني الحر"، بل إنّ الاتجاه سيكون لتفنيد مساوئ الاتفاق، بعدما كان الحريري "يجهد" في السنوات الماضية لتبريره، وشرح الإيجابيّات المتوخّاة منه على مختلف الأصعدة.

وقد لا يكون هذا الاتّجاه مفاجئاً، باعتبار أنّ هذا "الطلاق" لا يبدو مرهوناً بانتظار كلمة الحريري في المناسبة، بل إنّه وقع منذ لحظة استقالة الرجل من رئاسة الحكومة، ووضع "التيار" العصيّ في دواليب عودته إلى السراي مجدّداً، علماً أنّ عدم دعوة رئيس "التيار" جبران باسيل، أو أيّ من القياديين بمن فيهم من تربطهم "مودّة" بالحريري، رسالةٌ واضحةٌ في هذا السياق.

وإذا كان نقل الاحتفال من مقرّه المُعتاد في "البيال" إلى "بيت الوسط" جاء بعناوين "الظروف الأمنية"، وخشية حصول تظاهراتٍ من شأنها التشويش على الذكرى، أو إعاقة وصول المدعوّين، فإن الواضح أنّ الحريري لن يصوّب في كلمته على "الثورة" التي حاول ركوب موجتها بكلّ السّبُل فأطاحت به دون غيره من المسؤولين، بل سيكون كلّ تركيزه على "العهد" وما يمثّل، وصولاً إلى حدّ تحميله مسؤوليّة "الانهيار" الحاصل في البلاد، بموازاة الاتهامات التي يوجّهها "عونيون" لـ"الحريريّة السياسيّة" المسؤولية الكاملة، متناسين أنّهم في السلطة منذ أكثر من عشر سنوات.

وقد تكون الحملة الإعلانية التي انطلقت مع بدء العدّ العكسي للاحتفال، بمثابة "توطئة" لما يمكن أن تحمله كلمة الحريري، التي يقول العارفون إنّها لن تقتصر على "العموميات"، بل ستتضمّن الكثير من الشهادات والأرقام على طريق "إدانة" خصمه، خصوصاً على صعيد ملفّ الكهرباء، الذي "احتكره" وزراء "التيار" على مرّ السنوات، من دون تقديم شيءٍ سوى الوعود التي بقيت حبراً على ورق، وهي البوابة التي يسعى الحريري من خلالها إلى تكريس تموضعه في المعارضة، أقلّه في المرحلة الانتقاليّة الحاليّة، بانتظار الاستحقاقات المقبلة، سواء الدوريّة منها، أو التي سيفرضها الشعب بتحرّكاته الميدانيّة.

تنسيق وأكثر!

انطلاقاً من كلّ ما سبق، يبدو واضحاً أنّ تيار "المستقبل" حسم قراره لجهة "القطيعة" مع "الوطني الحر"، وهو قرارٌ يقول كثيرون إنّه مُتّخَذٌ منذ تاريخ تقديم استقالة الحريري رغماً عن إرادة حلفائه، وعلى حسابهم ربما، انسجاماً مع صوت الناس الصارخ، ولكنّه بقي "مستتراً" بانتظار نضوج الظروف المحيطة، خصوصاً أنّه لم يعد خافياً على أحد أنّ الحريري كان يمنّي النفس بالعودة إلى رئاسة الحكومة بشروطه، ما كان يتطلّب بعض "المرونة" التي يبدو أنّه تحرّر اليوم من عبئها.

لكنّ هذا "التحرّر" لم يأتِ على ما يبدو، من دون ضمان "بدائل" يمكن الاتّكال عليها في المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ الحريري شعر أنّ جلوسه في خندق "المعارضة" دونه عقبات كثيرة، أولها طبيعة أطياف المعارضة التي باتت تشكّل بالنسبة إليه "ثقلاً" يكاد يتفوّق على ثقل "الوطني الحر"، خصوصاً أنّ معظم المعارضين "حلفاء سابقون" سبق له أن "جرّبهم"، واختبر "طعناتهم" في أوقات "الضيق"، وعلى رأس هؤلاء "الكتائب اللبنانية" التي غلّبت "الشعبوية" على علاقتها به، و"القوات" التي لم تتردّد في "المزايدة" عليه، ولو من كيسه، على طريقة تسجيل النقاط عليه، مع أنّها كانت أول من "جرّته" إلى التسوية مع "الوطني الحر"، والتي أودت به وبالبلاد إلى المجهول، وفق ما يعتقد.

لكنّ هذا الشعور يبدو مغايراً مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي توحي المعطيات بأنّه بات يشكّل "البديل الأمتن" لـ "الوطني الحر"، من خندق المعارضة، ولكن المعارضة "البنّاءة" غير المرتكزة على "المزايدات" كما يفعل الآخرون، وهو ما تجلى خلال جلسة مناقشة الموازنة، ويتكرّر اليوم في جلسات مناقشة البيان الوزاري ومنح الثقة للحكومة، عبر تكريس نهج رفض تعطيل المؤسّسات، ولو تحت ضغط الشارع، نتيجة "التنسيق" بين الجانبين، علماً أنّ عدداً من المعارضين الآخرين هم من التحقوا بهذه المقاربة، وليس العكس.

ولعلّ ما يميّز العلاقة بين "المستقبل" و"الاشتراكي" اليوم، والتي دفعت مسؤولين من الجانبين إلى "حذف" سجالاتٍ حامية جمعتهم في المراحل السابقة، أنها تنطلق من "ثقة متبادلة" رغم كلّ الاهتزازات، علماً أنّ المراجعة النقدية التي بلورها الجانبان أخيراً، وصلت إلى خلاصة أنّ كلّ هذه الخلافات كانت بسبب "التسوية الرئاسية" التي "كبّلت" الحريري، بل إنّها جاءت نتيجة حتميّة لـ"استفزازات" كان الوزير السابق جبران باسيل يحرص على تكريسها. ويشدّد المسؤولون في الحزب على أنّ هذه المرحلة قد طويت، وأنّ المطلوب اليوم رفع مستوى التنسيق إلى أعلى درجاته، خصوصاً أنّ مصلحتهم في تقديم نموذجٍ معارضٍ يُحتذى تتفوّق على أيّ مصلحةٍ أخرى.

زمن "النكايات"؟!

بين "المستقبل" و"الاشتراكي" تاريخٌ من العلاقات المشتركة، سابقٌ لدخول سعد الحريري معترك السياسة، بل إنّ كثيرين يقولون إنّ النائب السابق وليد جنبلاط كان "عرّاب" هذا الدخول، وهو الذي شكّل في سنوات الحريري الأولى في السياسة، بعيد اغتيال والده، "مرشده" على أكثر من مستوى.

بيد أنّ هذا التاريخ المشترك لم يشفع لعلاقةٍ هزّتها خلافاتٌ بالجملة منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ووصلت إلى حدّ "تراشق" كلّ من جنبلاط والحريري بالاتهامات والاتهامات المتبادلة، والتي أخذ بعضها طابعاً ساخراً في بعض الأحيان، خصوصاً في عزّ الإشكال بين جنبلاط ورئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" طلال أرسلان، والذي لم يكن الوزير جبران باسيل ببعيدٍ عنه.

اليوم، يبدو أنّ الحرارة تعود إلى العلاقة بين الحريري وجنبلاط، ربما "نكاية" بباسيل، ما يطرح الكثير من الأسئلة حول صمود منطق "النكايات" في زمن "الثورة" التي يفترض أن تطيح بكلّ الأدبيّات المتوارثة، من دون تجاهل نوع العلاقة التي كانت تجمع بين الفريقين في الأصل، والتي يعيدها كثيرون أصلاً إلى "المحاصصة"، التي يفترض أنّ الشارع نبذها...