لقد بات مَن يُنادي بِالمحبَّة والكلمة الجامعة وتقبُّل الآخَر في هذه الأَيَّام، شبيهًا بمن "يُغنِّي في الطَّاحونة"!. وعليه فقد بات الشَّكُّ أَكبر في إِمكان أَنْ يُساهم الإِعلام في بناء السَّلام وتحقيق الاستقرار... وبِالتَّالي يُمكن في هذا الإِطار فتح نافذةٍ على ما قاله يوهان غالتونغ (Johan Galtung)، عالِم الاجتماع النَّروجيّ المُتختصِّص في "علوم السَّلام"، في بحثه عام 1965، عن "بُنية الأَخبار الأَجنبيَّة" (The Structure of Foreign News).

فقد درس غالتونغ، الطَّريقة الَّتي اعتُمدت في تغطية الأَخبار العائِدة إِلى الأَزمات في كلٍّ من ​الكونغو​، كوبا وقبرص، من خلال أربع صُحُفٍ يوميَّةٍ نروجيَّةٍ. فناقش "دور الإِعلام في إِرساء السَّلام في مناطق الحُروب"، مُحلِّلاً عددًا من التَّغطيات الصِّحافيَّة لقضايا الحروب والصِّراع في كلٍّ مِن الدُّول الثَّلاث المُشار إِليها أَعلاه، والَّتي كانَت حينَها تُعاني من حُروبٍ ونزاعاتٍ طويلةٍ...

كما وأَشار غالتونغ، إِلى "تأْثير الإِعلام السَّلبيِّ من جهة التَّحريض على الحُروب والعُنف والكراهية، إِبَّان "حرب ​البلقان​"، مُنتصف تسعينيَّات القرن الماضي، وبخاصَّةٍ بين مكوِّنات جمهوريَّة يوغسلافيا السَّابقة، الَّتي شهدت اقتتالاً داخليًّا عنيفًا أَدت إِلى تدخُّلٍ غربيٍّ بقيادة الولايات المُتَّحدة لإِنهاء الاقتتال...

ولقد تعلَّمنا من كُتُب التَّاريخ، أَنَّ "الإِخراج السِّياسيَّ" للتَّدخُّل في شؤون دولةٍ ما، لا بُدَّ مِن أَنْ يمُرَّ بالتَّحريض الإِعلاميِّ، وبعددٍ مِن الأَبواق المأْجورة...

وبالعودة إلى تلك الحقبة، فقد كانت ​رواندا​ الإفريقيَّة تشهد تزامُنًا إِبادةً واسعةً ذهب ضحيَّتها 800،000 قُتلوا في 100 يومٍ تقريبًا بِحسب "وكالة رويترز". وفي الحالتين كان للإِعلام دورًا أَساسيًّا في التَّحريض على العُنف ونشر خطاب الكراهية...

وفي حالاتٍ أُخرى، كان للإِعلام دوره المُحرِّض على رفض نتائج ​الانتخابات​ في مناطق عانت من نزاعاتٍ أَهليَّةٍ طويلة كما حدث في ​كينيا​ (2007 و2008)، وفي ​ساحل العاج​ (2010–2011)، وفي ​ليبيا​ بعد انتخابات مجلس النُّوَّاب (2014). ففي هذه الدُّول كان للإِعلام دورٌ تحريضيٌّ في رفض نتائج الانتخابات، ودعم الأَطراف الرَّافضة للنَّتائج، ما أَدى إِلى الدُّخول في اقتتالٍ أَهليٍّ واسعٍ، كان لقوى إِقليميَّةٍ ودوليَّةٍ دورٌ في إِذكائه.

بناء السَّلام

وفي مُواجهة الإِعلام التَّحريضيِّ، تنامى الحديث عن "دور الإِعلام في صناعة السَّلام"، إذ عبَّر الكثير من الأَكاديميِّين والصِّحافيِّين عن "أَهميَّة أَنْ يتمَّ تطوير نَموذج إِعلاميٍّ يتماشى مع مسؤُوليَّة الصِّحافة والإِعلام في إرساء السَّلام، ومنع الصِّراعات، بما لا يتعارض مع مبادئ نقل الحقائق وتمحيصها والولاء التَّامّ للنَّاس العاديِّين، أَيْ تقديم الحقائق إِليهم في سياقها الموضوعيٍّ لتحديد حجم تلك الحقائق مِن دون تهويلٍ أَو تهوينٍ، ومِن ثمَّ إدراة الحوارات في شأْنها من خلال التَّحليل الموضوعيِّ واقتراح التَّوقُّعات بهدف تطوير القرارات الإِيجابيَّة المُتعلِّقة بها، ومُراقبة أَصحاب النُّفوذ بنزاهةٍ واستقلاليَّةٍ"...

إِنَّ ​حكومة​ ​لبنان​ السَّابقة برئاسة ​سعد الحريري​، لو كانت على بيِّنةٍ بأَهميَّة "بناء السَّلام"، لما اتَّخذت في ورقتها "الإِصلاحيَّة" قرارًا بـ"إِلغاء وزارة الإِعلام"!. بل لكان الأَجدى بها أَنْ تسعى إِلى التَّخفيف من تأْثير الأَحزاب والتيَّارات السِّياسيَّة وأَصحاب رؤُوس الأَموال على وسائِل الإِعلام، وصولاً إِلى "استقلالها".

إِلى ذلك، ثمَّة نظريَّاتٌ إِعلاميَّةٌ تُوصي بـ"تبعيَّة وسائل الإِعلام للدَّولة في فترة الحروب والنِّزاعات السِّياسيَّة وما بعدها". وذلك لا يعني حُكمًا تبعيَّتها للحُكومات، بل للدَّولة...

وتبعيَّة وسائل الإِعلام للدَّولة، المعرُوفة باللُّغة الإِنكليزيَّة بِعبارة "Public Broadcast Services" تخضع في تمويلها لقوانين تُقرُّها الجهات التَّشريعيَّة، ولا تدخُل في مُوازنات السُّلطة التَّنفيذيَّة، في حين تُموَّل "التَّبعيَّة للحُكومات" مُباشرةً من مُخصَّصات الحُكومة.

كما ويرتكز دور وسائِل الإِعلام التَّابعة للدَّولة ووظيفتها على مُراقبة السُّلطة وأَصحاب النُّفوذ، وإِشراك الرَّأْي العامِّ في النِّقاشات في شأْن السِّياسات والقضايا العامَّة، وتقديم الحقائِق المُتعلِّقة بكُلِّ الأَحداث الجارية، والَّتي تُؤَثِّر في حياة النَّاس أَو الرَّأْي العامِّ.

لكنَّنا في لُبنان كُنَّا نسير "بالمقلوب"، إِذ تنصَّلت الحُكومة السَّابقة من مسؤُوليَّتها الإِعلاميَّة، فيما كان الحراك الشَّعبيُّ يستعدُّ لإِطلاق قناةٍ تلفزيونيَّةٍ تنطق باسمه!.