واصَل كل من رئيس ​الحكومة​ حسّان دياب ووزير المال ​غازي وزني​، إجتماعاتهما مع كبار مسؤولي ​صندوق النقد​ الدَولي، للبحث في شروط تقديم "البنك الدَولي" مُساعدة ماليّة عاجلة ل​لبنان​. في غُضون ذلك، تلقّت ​الدولة اللبنانية​ عرض مُساعدة من ​إيران​، نقله رئيس ​مجلس الشورى​ الإيراني ​علي لاريجاني​، خلال زيارته السريعة إلى ​بيروت​. وبين هذا الخيار وذاك، يتواصل العدّ العكسي نحو إستحقاق التاسع من آذار المُقبل، حيث تتضارب آراء المسؤولين اللبنانيّين، لجهة ضرورة تسديد مُستحقّات ديونه، من عدمه. فأيّ خيارات ستلجأ إليها الحُكومة التي ستجتمع غدًا الخميس، في الوقت الذي يتواصل فيه إرتفاع سعر صرف ​الدولار​، ومعه أسعار كل السُلع، بالتزامن مع توسّع دائرة العاطلين عن العمل؟.

بالنسبة إلى المُساعدة الإيرانية، فالمُشكلة ليست في أنّ إيران غارقة بمشاكلها الإقتصاديّة والمالية، فكيف يُمكنها بالتالي مدّ يد المُساعدة لأيّ كان–كما تتحدّث بعض الجهات الرافضة للخطوة. فلبنان دولة صغيرة، وأي جهة قادرة على بناء معامل كهرباء جديدة، ستُقدّم خدمة كبيرة للبنان، تُنقذه من عجز سنوي ضخم. وإيران قادرة تقنيًا وتكنولوجيًا على القيام بهذه المُهمّة، علمًا أنّها تعرض أيضًا إستكمال هذه الخطوة، بمدّ لبنان بحاجته من المُشتقّات النفطيّة لتشغيل هذه المعامل. كما تعرض إيران مدّ لبنان بحاجته من ​الأدوية​، إلخ. لكنّ المُشكلة أنّ إيران تُواجه عُقوبات أميركيّة قاسيّة، وأيّ جهة تتعامل معها ستُصنّف تلقائيًا بموقع مُعادٍ، وستتعرّض بدورها للعُقوبات. فهل لبنان قادر على مُعاداة الولايات المتّحدة الأميركيّة، وكل المحور الغربي المُؤيّد للتعامل بحزم مع إيران؟ وأكثر من ذلك، هل لبنان قادر على تحمّل عواقب تصنيفه كليًا ضُمن المحور الإيراني، مع كل الإرتدادات السلبيّة لهذا الأمر، على علاقاته السياسيّة والإقتصاديّة مع الدول العربيّة لا سيّما الخليجيّة منها؟ وهل لبنان قادر على تحمّل عواقب تعريض مصالح اليد العاملة اللبنانيّة في ​دول الخليج​ للخطر؟ وهل لبنان قادر على تحمّل الإنتقال سياسيًا إلى الحُضن الإيراني، مع كل التبعات الأمنيّة لهذا الأمر، خاصة على مُستوى المخاطر الأمنيّة من الجانب الإسرائيلي؟.

بالنسبة إلى مُساعدة الصُندوق الدَولي، فهي ليست بدورها مجّانية، وهي لا تتمّ من دون غطاء سياسي دَولي، يفرض على لبنان جُملة من الشروط والمعَايير الواجب الإلتزام بها. أكثر من ذلك، إنّ قيام البنك الدَولي بتوفير مساعدة ماليّة عاجلة للبنان، لا يتمّ من دون تنفيذ سلسلة من الخُطوات الإصلاحيّة على مُستوى هيكلة الدولة ومؤسّساتها، ومن دون سلسلة من الإجراءات الضريبيّة القاسية. فهل ​الشعب اللبناني​ قادر في هذا الظرف أن يتحمّل مثلاً، زيادة ضريبة القيمة المُضافة، أم رفع الرسوم على ​البنزين​، أم رفع الدعم عن كلفة إنتاج ​الكهرباء​؟ وهل الشعب اللبناني قادر في هذا الظرف أن يتحمّل مثلاً أيّ خفض لرواتب ​القطاع العام​، أو أيّ إقتطاع من رواتب المُتقاعدين، أو أيّ تصغير لحجم القطاع العام، بمُختلف مُؤسّساته الإداريّة والوظيفيّة والعسكريّة والأمنيّة؟ صحيح أنّ صندوق النقد لا يشترط تنفيذ كل هذه المطالب دفعة واحدة، لمدّ يد المُساعدة، لكنّ الأصحّ أنّه لا يُقدّم عادة أيّ مُساعدات ماليّة من دون أن تُبادر الدولة التي هي بحاجة إلى مُساعدات، إلى وقف الكثير من زواريب الهدر فيها، وإلى إتّخاذ إجراءات إصلاحيّة قاسية تضبط ميزانيّتها، وتُعيد التوازن ما بين حجم وارداتها وحجم مصاريفها.

وبين المُساعدة المَعروضة من إيران، وتلك المُحتملة من صندوق النقد الدَولي، قد يلجأ لبنان إلى خيار ثالث، يتمثّل في الهروب إلى الأمام في المرحلة الراهنة، من خلال تسديد فوائد الديون المُستحقّة عليه في التاسع من آذار المُقبل، بحيث يكسب المزيد من الوقت، ويكون قادرًا على دراسة الخيارات المُتاحة أمامه بشكل تفصيلي أكثر، تمهيدًا لإطلاق إجراءات المُعالجة، ووقف الإنهيار على مُختلف المُستويات. لكن حتى هذا الخيار، ليس برّاقًا، لأنّ الضرر الناجم من غياب عامل الثقة كارثي، وقد دفعت المصَارف ثمنه غاليًا، وها إنّ المُودعين يدفعون بدورهم اليوم نتائج غياب هذه الثقة. كما أنّ عامل الثقة تسبّب-ولا يزال، بارتفاع تصاعدي مُخيف لسعر صرف الدولار، الأمر الذي أسفر عن تضخّم كبير على مُستوى الأسعار دمّر القُدرة الشرائيّة للمُواطنين اللبنانيّين. وغياب عامل الثقة، تسبّب بوقف كل أنواع الإستثمارات الإنتاجيّة، الأمر الذي جمّد ​الدورة​ الإقتصاديّة في لبنان بشكل واسع، بحيث إرتفعت نسبة ​البطالة​ بشكل خطير جدًا، وتوسّعت دائرة ​الفقر​ والعوز...

في الخُلاصة، لا يُمكن للبنان المُخاطرة بتلقّي أيّ مُساعدة من أيّ جهّة، تُعرّضه لعُقوبات أو تُضرّ بمصالحه الإستراتيجيّة الدَوليّة، وتُدخله من حيث يدري أو لا يدري في تموضعات سياسيّة وأمنيّة في غاية الخطورة. ولا يُمكن للبنان أيضًا ألاّ يدفع إستحقاقاته الماليّة الدَوليّة، حتى لا يتحوّل إلى دولة فاشلة، ولا يُمكنه في المُقابل المُسارعة إلى الدفع، مُستهلكًا آخر إحتياطاته الماليّة من الدولار-والتي هي في النهاية أموال المُودعين في ​المصارف​ المُحوّلة إلى ​المصرف المركزي​، من دون المُبادرة في الوقت عينه إلى تنفيذ خُطة إنقاذيّة عاجلة. وبالتالي، على الحُكومة اللبنانيّة، اليوم قبل الغد، مُصارحة اللبنانيّين بالخطّة التي ستعتمدها لوقف الإنهيار، أكان عبر إعادة جدولة ​الدين العام​ بمُساعدة الصندوق الدَولي، أم من خلال وسائل أخرى، لكنّ المُهم ألاّ تتأخّر هذه الإجراءات، لتهدئة النُفوس القلقة على المصير، وللبدء في إستعادة الثّقة التي دُمّرت تمامًا، مع ما يعنيه هذا الأمر من إرتدادات سلبيّة على كلّ المُستويات.