منذ السابع عشر من تشرين الأول الماضي، دخلت البلاد منعطفاً جديداً على المستويات الإقتصادية والمالية والإجتماعية والسياسية، دفعت بالبعض إلى طرح الكثير من السيناريوهات ​المستقبل​يّة التي لم تصل إلى أساس المشكلة القائمة، من الذهاب إلى البحث في الصيغة القائمة منذ ​إتفاق الطائف​، إلى الدعوة لإنتخابات نيابية مبكرة تقود لاحقاً إلى إنتخابات رئاسية مبكرة وتشكيل حكومة جديدة.

كل هذه السيناريوهات تتوقف عند أمر جوهري لا يتم التطرق إليه، منذ تاريخ إستقالة رئيس ​الحكومة​ السابق ​سعد الحريري​، هو، من يتخذ القرار في البلاد وما هو البرنامج المفترض تنفيذه للخروج أو إدارة ​الأزمة​ الراهنة، وبالتالي ما الذي يجب القيام به بأسرع ما يمكن لتفادي المزيد من الإنهيار الذي يدفع ثمنه المواطن ال​لبنان​ي أولاً وأخيراً على أكثر من مستوى، خصوصاً على صعيد قدرته الشرائية.

في ظل التركيبة الحالية، يوجد شبه إجماع على غياب أيّ توافق بين القوى السياسية الأساسية على أيّ قرار، حتى بالنسبة إلى ​الحكومة الجديدة​ برئاسة ​حسان دياب​ التي تقترب من اللون الواحد، نظراً إلى أن الأخيرة لن تكون قادرة على القيام بأي مبادرة فعلية من دون توفر الحد الأدنى من الإستقرار السياسي، وهو ما طالب به أمين عام "​حزب الله​" ​السيد حسن نصرالله​ في خطابه السابق.

وبعيداً عن السجالات السياسية التي تسيطر على المشهد العام، والمرشحة إلى التصاعد يوماً بعد آخر في ظل رغبة البعض في إستغلال الأزمة الراهنة من أجل خوض معارك جانبية لا فائدة منها، لدى بعض الأوساط السياسية والإقتصادية قناعة بأن أصل المشكلة يكمن في غياب الرؤية، التي تحول دون تفاقم الأوضاع في المستقبل القريب، أي غياب القدرة على إدارة الأزمة كي لا يطرح ما هو أبعد من ذلك، لناحية البحث في كيفية الخروج منها.

وتطرح هذه الأوساط على سبيل المثال لا الحصر القرار الأول الذي رافق ولادة الحكومة، أيّ تحديد سقف لشراء ​الدولار​ من جانب محلات الصيرفة هو 2000 ليرة لبنانية، حيث تشير إلى أن هذا القرار، على الرغم من أنه يحدّد السقف لشراء الدولار من قبل المواطنين، سمح للصيارفة بجني المزيد من الأرباح مقابل خسارة المواطن العادي في معادلة العرض والطلب، لا يطبق بأي شكل من الأشكال، ويمكن من خلال جولة قصيرة على بعض محال الصيرفة التأكد من ذلك بشكل حاسم.

من وجهة نظر هذه الأوساط، حالة الفشل القائمة توحي بوجود من يريد ترك الأزمة نحو المزيد من التعقيد، لفرض خيارات إقتصادية تقود إلى أخرى سياسية أصعب، أي أن المطلوب زيادة الضغط لدفع لبنان إلى تقديم المزيد من التنازلات في ظل تحولات كبيرة تشهدها المنطقة، الأمر الذي ينبغي التوقف عنده مطولاً نظراً إلى التداعيات التي قد تترتب جراء ذلك على الإستقرار الداخلي.

بالنسبة إلى الأوساط نفسها، السؤال الجوهري الذي من المفترض أن يطرح يتعلق بالإمكانات في البلاد، لا سيما على المستوى المالي، حيث تؤكد أنها متوفرة بالشكل الذي يسمح بإدارة الأزمة والبحث في كيفية الخروج منها، إلا أنها ترى أن المطلوب وجود رؤية واضحة لذلك، ووضع برنامج يحظى بقرار سياسي بالتنفيذ، لا البحث في أمور أخرى لن تقود إلا إلى إضاعة المزيد من الوقت.

المشكلة الأساس، بحسب هذه الأوساط، داخليّة وليست في مكان آخر، وترى على سبيل المثال أيضاً ان طريقة البحث في إستحقاق سندات اليوروبوند في شهر آذار المقبل دليل آخر على ذلك، نظراً إلى أنها تؤدي إلى المزيد من الفوضى في الأسواق، في ظل عدم القدرة على تحديد خيار واضح، سواء بالدفع أو من عدمه، أو وضع هكذا قرار في سياق مشروع متكامل، وتشدد على أن لبنان لم يدخل مرحلة الإنهيار الكامل، رغم الظروف الصعبة التي يمر بها، لا بل تذهب أبعد من ذلك لتؤكد أن الخيارات متوفرة، إلا أن ذلك يتطلب مناقشة هادئة وجدية، بعيداً عن لعبة المزايدات الداخلية أو صراع المحاور القائم في المنطقة.

في المحصّلة، أي خيار أو قرار، على مستوى الأزمة الراهنة، يفترض أن ينطلق من خطة واضحة محددة المعالم تتضمن خيارات بديلة على أساس المخاطر التي قد تعترض تنفيذها، يدرك من يقف خلفها المسار الذي ستسلكه حتى النهاية، نظراً إلى أن الإدارة السابقة القائمة على العشوائية لم يعد من الممكن الإستمرار بها.