في الوقت الذي تتواصل فيه إجتماعات كبار المسؤولين ال​لبنان​يّين الرسميّين، مع مُمثّلي ​صندوق النقد الدولي​، ومع مُمثّلين إقتصاديّين وماليّين مُتخصّصين، يتمّ في الشارع اللبناني-وفي سياق القلق العام على الودائع المصرفيّة، تداول نظريّتين عن أسباب ما حصل ويحصل، الأولى تتحدّث عن مُؤامرة إفلاس خارجيّة مُتعمّدة، والثانية تتحدّث عن سوء إدارة إقتصاديّة وماليّة، الأمر الذي أوصل البلاد إلى حال الإنهيار. فما هي حُجج كلّ من النظريّتين، وما هو مصير أموال الناس في ​المصارف​؟.

بالنسبة إلى نظريّة مُؤامرة إفلاس لبنان، فإنّ مُروّجيها يعتبرون أنّ ما حصل هو عبارة عن خُطّة دوليّة مدروسة بعناية، جرى تنفيذها داخليًا بعناية ليس منذ سنوات فحسب، بل منذ عُقود، بهدف إفلاس لبنان، وإرغامه بالتالي على القُبول بتسويات سياسيّة تحت وطأة العوز والجوع! ويعتبر أصحاب هذه النظريّة أنّ جهات دوليّة عدّة، شجّعت لبنان على الإستدانة لتنفيذ المشاريع الإستثماريّة، مع تقديم وُعود بمحو هذه الديون وبشطبها، في مرحلة لاحقة، عندما يعمّ ​السلام​ المنطقة. لكنّ هذا الأمر لم يحصل، بل دخلت منطقة ​الشرق الأوسط​ مرحلة من الصدامات ​الجديدة​ التي لا تنتهي، ليغرق لبنان بمزيد من الديون تباعًا، بحيث أصبح مع الوقت عاجزًا عن سداد فوائد هذه الديون التي تضخّمت كثيرًا. ومع كل مُؤتمر دَولي خُصّص لدعم لبنان، كانت الأموال تأتي إلينا بسُهولة، ليتم بعد ذلك، المُطالبة بدفع الفوائد، وهكذا دواليك، بحيث لم تعد ​الدولة اللبنانية​ قادرة على الوفاء بإلتزامتها الماليّة العالميّة. وهدف بعض الدول التي تقف خلف هذه الخطة-بحسب مُروّجي نظريّة المؤامرة، هو إرغامه على القُبول بتسويات مُخصّصة للمنطقة، تتناول العلاقة مع ​إسرائيل​، ومصير ​اللاجئين​ السُوريّين والفلسطينيّين على أرض لبنان، وحُقوق إستخراج ​النفط والغاز​، إلخ.

في المُقابل، وبالنسبة إلى نظريّة سوء إدارة مسؤولي الدولة منذ سنوات وعُقود أيضًا، فإنّ مُروّجيها يعتبرون أنّ ما حصل هو نتيجة طبيعيّة لغياب الرؤية الإقتصاديّة والماليّة، ولا علاقة للسياسة به، حيث أنّ الخط الإنحداري للعجز المالي كان واضحًا من البداية، وهو تصاعد وكبر ككرة ثلج مع الوقت، بحيث بلغ أخيرًا مرحلة مُتقدّمة يصعب وقفها! وبحسب المُدافعين عن هذه النظريّة، فإنّ الدولة اللبنانيّة تعرّضت لعمليّة سرقة مُنظّمة ومُمنهجة على مدى سنوات وعُقود، من قبل مجموعة من القوى السياسيّة المُتعاقبة، بحيث جرى توزيع مئات المشاريع الإستثماريّةفي ما بينها، بمبالغ تفوق بأضعاف الكلفة التنفيذيّة الحقيقيّة في ما لو جرى تطبيق مُناقصات شفّافة. وإضافة إلى "تقاسم الجُبنة"–إذا جاز التعبير، إستشرى ​الفساد​ في مُؤسّسات وقطاعات الدولة، وعمّت الفوضى، والتوظيف العشوائي، وزيادة الرواتب من دون تمويل، إلخ. لأهداف سياسيّة شعبويّة، لصالح هذه القوى السياسيّة. وزاد الأمر سوءًا، بسبب تواصل الهدر في كثير من المصالح الحيويّة للدولة، بالتزامن مع تعرّض لبنان لخضّات أمنيّة وسياسيّة مُتعدّدة خلال العُقود الثلاثة الماضية، الأمر الذي أضعف الواردات، في مُقابل تفاقم المصاريف من دون حسيب أو رقيب.

وبين هذه النظريّة وتلك، وبغضّ النظر عن حُجج كل طرف، وحتى بغضّ النظر عن وُجود نظريّات أخرى تدمج ما بين تمّ ذكره، أو تتحدّث عن نظريّات أخرى أيضًا، فإنّ الرأي العام اللبناني مُهتمّ حصرًا بالنتائج التي وصلنا إليها معيشيًا وحياتيًا، لجهة غياب فرص العمل، وإرتفاع نسب ​البطالة​، ولجهة إرتفاع الأسعار، وتراجع القُدرة الشرائيّة، وتوسّع دائرة ​الفقر​. وقلق اللبنانيّين مُنصبّ حاليًا على ودائعهم الماليّة في المصارف–كلّ بحجم قُدراته ومصاريفه، فما هو المصير المُتوقّع لهذه الأموال، في ظلّ الكثير من التقديرات والتكهّنات وحتى الإشاعات والدسائس المُغرضة؟!.

لا شكّ أنّ آراء الخُبراء الإقتصاديّين والماليّين مُتضاربة جدًا في هذا السياق، حيث يربط الكثير منهم مصير هذه الودائع، بالخيارات التي سينتهجها لبنان خلال الأشهر المُقبلة، وحتى خلال السنوات القليلة المُقبلة، وكذلك بحجم المُساعدات التي سيتلقّاها البلد، وثالثًا وليس آخرًا بحجم الثقة التي يُمكن إستعادتها في حال نجاح السُلطة السياسيّة في جذب القُروض الماليّة، وحتى بعض الإستثمارات. في المُقابل، يعتبر خبراء آخرون أنّنا وصلنا مرحلة اللاعودة على مُستوى ​العجز المالي​، والمسألة تقتصر بالتالي على إدارة عمليّة إفلاس بأقلّ أضرار مُمكنة، وعلى مُحاولة تأخير هذه الحقيقة المُرّة، لأطول فترة مُمكنة!.

وبين هذين الرأين المُتضاربين، فإنّ الإجماع العام بين الخُبراء الإقتصاديّين والماليّين هو على أنّ أموال الناس المُودعة في المصارف، ستبقى تحت سيطرة إدارات المصارف لأجل غير مُسمّى يُقدّر بسنوات، من دون إستبعاد صُدور تشريعات قانونيّة بهذا المعنى في المُستقبل غير البعيد، بحجّة منع تعرّض المصارف للإفلاس وحماية أموال المُودعين! وبحسب إجماع الخُبراء، إنّ أكثر التوقّعات تفاؤلاً تتحدّث عن تمكّن المصارف من الإستمرار بتسليم المُودعين ودائع ماليّة صغيرة ومحدودة وعلى فترات زمنيّة مُتباعدة، والإستمرار بقُبول عمليّات الشراء الكبرى عبر "الشيكات المصرفيّة" التي تنتقل من حساب إلى آخر ضُمن لبنان فقط. أمّا التوقّعات المُتشائمة، فتتحدّث عن تحوّل الحسابات المصرفيّة إلى ودائع مُجمّدة لا يُمكن المسّ بها لسنوات، في إنتظار جلاء الصُورة!.

في الخُلاصة، في حال البحث عن تعريف كلمة "وديعة" في معاجم ​اللغة​ العربيّة، نقع على شروحات مثل: "أمانة، ما إستودعته لتستردّه فيما بعد"، "وديعة بنكيّة ماليّة تُسحب عند الطلب"، "عقد يُخوّل المصرف ملكيّة النُقود المُودعة والتصرّف فيها بما يتّفق ونشاطه المهني، مع إلتزامه بردّ مثلها للمُودع، ويكون الردّ بذات نوع العُملة المُودعة"، وغيرها الكثير من الشروحات المُماثلة. لكنّ ما يحصل في لبنان على مُستوى أموال المودعين، بعيد كلّ البُعد عن هذه الشُروحات، وصار أقرب إلى شروحات مثل "وضع يد" و"إستغلال" و"سطو" و"إذلال"، إلخ. وبذلك إنّ عامل الثقة بين المُودع اللبناني والمصارف لن يعود إطلاقًا في المدى المَنظور، ما سيُرتّب خسائر جسيمة مُتبادلة للطرفين، للأسف الشديد!.

​​​​​​​