ينظر الكثير من ال​لبنان​يين إلى كل ما يحصل، منذ السابع عشر من تشرين الأول حتى اليوم، على أساس أنه جزء من مؤامرة خارجية، يراد لها أن تخضع البلاد في سياق مشروع كبير يشمل المنطقة برمتها، لا سيما أن ما يحصل يتزامن مع ما يطرح على المستوى الإقليمي، من ​صفقة القرن​ إلى إعادة رسم خرائط العديد من الدول.

انطلاقاً مما تقدم، يصبح منطقيا هذا الطرح إلى حد بعيد، ويمكن الترويج له على نطاق واسع، لكن في المقابل هناك حقيقة أخرى لا يمكن انكارها، تكمن بأن الجزء الأكبر من "المؤامرة" داخلي بالدرجة الأولى، نظراً إلى أن الثغرات التي يتسلل من خلالها الخارج يتحمل المسؤولية عنها المسؤولون ​اللبنانيون​، وبالتالي من المفترض أن يبدأ الحديث من هذه النقطة بالذات.

منذ سنوات طولية، يمكن الجزم أنه من تاريخ انتهاء ​الحرب اللبنانية​ على الأقل، يتم الحديث عن الإصلاح و​محاربة الفساد​ في لبنان، حيث لا يخلو أي برنامج حزبي أو أي حملة انتخابية من الخطابات الرنانة على هذا الصعيد، وهو ما برز بشكل لافت منذ اندلاع ​الانتفاضة​ الشعبية في الشارع، لكن عملياً لم يلمس المواطن أي نتيجة لها، بدليل عدم توقيف أيّ مسؤول لمحاسبته، الأمر الذي تُطرح حوله الكثير من علامات الاستفهام، في ظل الفضائح التي تنشر بشكل شبه يومي عبر وسائل الإعلام، ما يدفع إلى السؤال عما إذا كانت كل هذه الخطابات والشعارات ذات مصداقيّة أو يمكن الركون إليها من قبل المواطنين؟!.

في هذا الإطار، قد يكون من الضروري الإشارة إلى أنّ الجزء الأكبر من ​الأزمة​ الراهنة، يكمن بفقدان الثقة بين المواطنين و​السلطة​ السياسية، فليس هناك من مواطن لبناني قادر على الدفاع عن تلك السلطة في ظل حالة النكران التي تعيشها، خصوصاً على مستوى التمنّع عن القيام بأيّ إجراءات من الممكن أن تساهم في الحد من آفّة الفساد، وليس هناك من تعبير أوضح على ذلك من واقع الهيئات الرقابيّة، التي أهملت، طوال الفترة السابقة، حتى باتت عاجزة عن القيام بالحد الأدنى من واجباتها.

بعض المعالجات لا تحتاج إلا لقرار سياسي، بينما البعض الآخر يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث أنّ معظم الهيئات الرقابيّة في لبنان، خصوصاً ​التفتيش المركزي​ و​ديوان المحاسبة​ ومجلس الخدمة المدنيّة، تعاني من حالة شغور كبيرة في ملاكها، في المقابل لا يزال ملفّ التوظيف السياسي العشوائي، الذي سبق ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة، من دون أيّ معالجة جدّية، رغم الاتفاق على أنه جاء بطريقة مخالفة للقانون.

اليوم، قرّرت ​الحكومة الجديدة​ برئاسة ​حسان دياب​ الذهاب إلى الخارج لطلب المساعدة أو المشورة، وهي ليست المرة الأولى التي يحصل فيها مثل هذا الأمر، لا بل ان أي مواطن متابع يستطيع أن يقدّم لها النصائح التي لم تعد خافية على أحد، من معالجة مشكلة ​الكهرباء​ إلى ​مكافحة الفساد​ والإصلاح الإداري وصولاً إلى مشكلة الدين وهيكلته أو جدولته، إلا أنّ العبرة تكمن في التنفيذ، أيّ وجود قرار سياسي بالمعالجة كي لا تبقى هذه النصائح حبراً على ورق، مثلها مثل الشعارات التي تُرفع في زمن الانتخابات النيابية.

في المحصّلة، هناك مفارقة قد تكون غائبة عن بال الكثيرين في لبنان، هي أن السلطة السّياسية عندما تقرر الذهاب إلى الخارج لطلب المساعدات، لا تتوانى عن الحديث عن قوانين مكافحة الفساد كي تظهر أنّ لها مصداقية تستحق الثقة على أساسها، لكن عملياً هي من تضع العراقيل التي تحول دون تنفيذها أو تجعلها دون أيّ معنى، بدليل قانون حقّ الوصول إلى المعلومات الصادر من العام 2017، الذي لا يزال حتى ​الساعة​ دون تطبيق بحجّة غياب المراسيم التطبيقيّة، لأنّه أصلاً لا يحتاجها.