وقف النبيّ أمام الشّعب كلّه. فتح فاه متكلّماً باسم الربّ، وقال: "وَلَكِنِ الآن يَقُولُ الرَّبُّ: "ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ"(يوئيل122). "إِرجعوا إليَّ" يقول الرّب، دعوةٌ تكشِف عن جوع الربّ إلى ​الإنسان​، وتفتحُ شهيّة الإنسان للعودة إلى المصدر. والعودة ممكنة، بفعل كون المصدر والداً يَلِدُ أبناءَه على الدّوام، ويُرضِعهم حليب رحمته الإلهيّة المجّانيّة، لأنّه لا يُسَرّ بِموت مَن يموت بل بعودته عن طريقه الشّرّيرة فيَحيا من جديد(حز13: 11). ويجب الإنتباه إلى حقيقة أنَّ العودة إلى المصدَر الوالِد، لا تتمّ لاستحقاق المَدعوّ وجدارته، بل للطفِ الدّاعي ورحمته(تي3: 5) ورأفته اللامتناهية والجديرة وحدها بالثّقة: "ارْجِعُوا إلى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لأَنَّهُ رَؤوفٌ رَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ وَيَنْدَمُ عَلَى الشَّرِّ"(يوئيل12: 13).

والعودة الى الله تصبح ممكنة عندما يسمح الإنسان لنعمة الله بأن تدخل الى كيانه وتهزّه في الصّميم وتُزلزل انسياقه إلى الخطيئة، وتعطيه القوة على الثّورة على الذّات وتمزيق القلب: "ارْجِعُوا إِلَيَّ بكُلِّ قلوبكم وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ... مزقوا قلوبكم لا ثيابكم"(يو12: 12-13)، يقول الرّب. لم يقل الربّ، إرجعوا إليّ بتقدماتكم الباطلة ولا بتديّنكم الكاذب، بل بكلّ قلوبكم. لا يظُنّنّ أحد أنّ الطقوس الخارجيّة التي يُمارسها كفيلة وحدها بتحقيق دعوة الإنسان إلى القداسة؛ فالعودة الصّادقة إلى الله تكون على مستوى الباطن والكيان أي القلب، لا على مُستوى اللّسان والفم و​البطن​ والمأكل والمشرب والملبس. إهتداء القلب إلى الله هو المطلوب الأوّل، لا الإنقطاع عن الدّسِم من الطّعام والغالي من الشّراب والنّفيس من الثياب... اهتداء القلب هو الأساس في العلاقة مع الربّ، وما دونه ليس سوى كذب ودَجلٌ ومواربةٌ ومُمارسات مُزيّفة وتديّنٌ مُنافق. وهذا التديّن قد يغشّ الإنسان، ولكنه لا يمرُّ على الله "فاحِص القلوب والكِلى"(إر17: 10). الطقوس الخارجيّة هي وسائل تؤهّب القلب وتُساعده على الإهتداء، ولكنّها وحدها عاجزةٌ عن تحرير الإنسان من الشرّ الذي يملك عليه. واهتداء القلب يطال عمق الأفكار والمشاعر والقرارات والخيارات والأفعال، فهذه كلّها يجب أن تتوب وترتدّ وتتغيّر بشكلٍ جذري متناسقٍ مع إرادة الله. ولهذا، فالصّوم هو أوّلاً تحوّل جذريّ في الذّهنية، أيّ في المنطق وطريقة التفكير التي تُنير الخارج بجمالٍ إلهي مُميّز، فيُصبح الدّاخل والخارج سَيّان.

في الواقع، كثير من مسيحيي اليوم لنّاس اليوم جاهزون "ليمزّقوا ثيابهم"، ليَرشموا جباههم بالرّماد، لينقطعوا من المأكل والمشرب، ليكتفوا بقليلٍ من الطّقوس الخارجية التي لا تُقَدّس صانعيها، ليَبقوا على مستوىً سطحي في علاقتهم مع الله ومع إخوتهم، ولكن قليلون هم الذين على استعداد للعمل على الباطن، على القلب والعقل والتّفكير، على الضّمير وعلى النّوايا، على السّلوك، على اللّسان، على العلاقات، على الأفعال... فاسحين بذلك بالمجال أمام الرب ليبسط مُلكه على قلوبهم ويرتدّوا فيُهديهم طريق الخلاص.

لا معنى للصّوم إن ضيّع هدفه؛ وهدف الصّوم هو اللقاء مع الربّ ومع الإنسان، وإلاّ لا داعي لتصويم البطن، بل فلنأكل ونشرب لأنّنا غداً سنموت... والسّلام.