صحيحٌ أنّ "مهلة السماح" التي حُكي عنها مع ولادة حكومة حسّان دياب لم تنقضِ بعد، وأنّها لا تزال في بداياتها إن جاز التعبير، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ ​الحكومة​ التي لا تتمتّع بـ"ترف" الانتظار والمماطلة، باتت في قلب "المواجهة" الحقيقيّة، في ضوء "الاختبارات" التي بدأت سريعاً "تطوّقها"، من كلّ حدبٍ وصوب.

هكذا، وفيما كانت الحكومة "تستنفد" المُهَل لاتخاذ موقفها النهائي في شأن سندات "اليوروبوند" التي تُستحَق بعد أسبوع، وربطاً لإعلان الخطة الإصلاحية التي رفعت لواءها منذ اليوم الأول، جاء فيروس "كورونا" ليرفع من حجم التحديات، ويضع الحكومة أمام "اختبارٍ" لم تكن مستعدّة له، ولا يبدو في صالحها.

وفي وقتٍ رسم كثيرون علامات استفهام حول "الارتباك" الذي طبع عمل الحكومة في هذين الملفيّن، وهي صفةٌ قد لا تعكس الصفة "الاختصاصيّة" للحكومة، زادت "العزلة الدوليّة" التي تواجه الحكومة الطين بلّة، في ضوء إحجام العديد من الدول القريبة والبعيدة عن "الاعتراف" بها، وفتح أبوابها أمام رئيسها حسّان دياب، كما كان يصبو ويتمنّى...

طريق الجلجلة...

قبل أقلّ من أسبوع على موعد استحقاق تسديد إصدار "اليوروبوند" بقيمة مليار و200 مليون ​دولار​، لا يزال "الضياع" سيّد الموقف على خط القرار النهائيّ للحكومة، التي تبدو محتارة بين "خيارات أحلاها مُرّ"، سواء لجهة تسديد السندات، أم تأجيلها، وبين الإثنين خوض مفاوضاتٍ مع الجهات الدائنة لإعادة التوزيع والهيكلة، علماً أنّ لكلّ خيارٍ "تبعاته" على الوضع النقدي والمالي، الذي لم يعد يتحمّل أيّ "هزّة" ولو كانت من النوع "الارتداديّ".

وإذا كان رئيس الحكومة حسّان دياب كسر "صمته" في كلمته أمام السلك الدبلوماسي، حين أعلن أنّ الأيام المقبلة ستشهد حسم ​النقاش​ باتخاذ قرارٍ وصفه بـ"المفصليّ" لهذه الحكومة، معتبراً في الوقت نفسه أنّه قرار "حسّاس ودقيق يُدرَس بعناية شديدة"، فإنّه ثبّت حجم "الارتباك" الحاصل بحديثه عن "طريق الجلجلة" التي رأى السير بها "الخيار الوحيد" للحكومة، "مهما كان الوجع"، على حدّ تعبيره.

ولعلّ هذا "الارتباك" ظهر واضحاً ببعض المواقف التي حملتها الأيام الأخيرة، من قبل بعض الأطراف المحسوبة على الحكومة، وتحديداً من "​حزب الله​"، الذي استبق مسؤولوه أيّ قرار حكوميّ يمكن أن يُتّخَذ بوضع "فيتو" أمام أيّ تعاونٍ مع ​صندوق النقد​ الدولي، رداً على ربط أيّ "مساعداتٍ" للحكومة به، وهو ما طرح علامات استفهام عن خلفيّات وحيثيّات الموقف، وما إذا كان "دعائياً" على غرار الموقف من ​الضرائب​ مثلاً التي أقرّت في الحكومة السابقة على رغم معارضته، أم "مبدئياً"، ما يعني أنّ الحزب لن يقبل أيّ نقاشٍ به، أياً كانت تبعات ذلك.

وفي وقتٍ كان لافتاً أنّ موقف "الحزب" لا يلقى "إجماعاً" داخل الحكومة، حتى من قبل "الحلفاء"، وعلى رأسهم "​التيار الوطني الحر​"، الذي دعا نائبه ​آلان عون​ إلى "الروية" في مقاربة ملف صندوق النقد، فإنّ ثمّة من سأل عن سبب إصرار الحزب على إطلاق مثل هذا الموقف في العَلَن وعبر الإعلام، في وقتٍ يفترض أنّ الحكومة المحسوبة عليه لا تزال في طور نقاش الخيارات المَطروحة، الأمر الذي لم يبدُ لصالحها أمام الخارج، خصوصاً في ضوء الاتهامات التي تُوجَّه لها بأنّها "حكومة حزب الله"، أو بأنّ "حزب الله" هو من يتحكّم بقرارها بالحدّ الأدنى، الأمر الذي يُحرِج "الحزب" قبل غيره.

الحِمل "الأثقل"؟!

لا شكّ أنّ الملفّ الماليّ والنقديّ لا يزال يشكّل "حِملاً ثقيلاً" للحكومة، التي تصرّ على أنّها لم تأتِ لـ "إدارة الإفلاس"، بل لـ "الإنقاذ"، وإن قلّصت من طموحاتها برأي كثيرين حين غيّرت اسمها ليقتصر على "مواجهة التحديات"، علماً أنّ رئيس الحكومة لا يزال يصرّ في كلّ تصريحاته، ولو كانت "نادرة"، على التصميم على "تفكيك التعقيدات"، مهما تطلّب الأمر.

وفي وقتٍ تُنتقَد الحكومة على أنّها لم تقدّم نموذجاً أفضل من الحكومات التي سبقتها حتى الآن في سبيل المواجهة، على رغم الظروف "الاستثنائية" التي تحيط بها، خصوصاً أنّ مشروعها لا يزال محصوراً بتشكيل "اللجان" التي لطالما وُصِفت بأنّها "مقبرة المشاريع"، فإنّ حِملاً "أثقل" بدأ يطوّق الحكومة من حيث لم تحتسب، وتحديداً على المستوى الصحّي، بعد "تسلّل" فيروس "كورونا" الذائع الصيت، وبدء انتشاره على الأراضي اللبنانية.

ومع أنّ الحكومة تحرص على تأكيد انسجام كلّ الإجراءات التي اتخذتها مع المعايير التي تضعها ​منظمة الصحة العالمية​ في هذا الإطار، وهو ما يحرص ​وزير الصحة​ ​حمد حسن​ على التشديد عليه في كلّ المناسبات، كان واضحاً أنّ الفيروس "طوّق" الحكومة بشكلٍ أسرع من تفشّي الفيروس نفسه، في ضوء الانتقادات التي وُجّهت إليها بالتعامل معه على طريقة "ردّة الفعل"، الأمر الذي عكس برأي كثيرين "قلّة مسؤوليّة"، خصوصاً أنّها كان يفترض أن تستبق وصوله بإجراءاتٍ احترازيّةٍ، كما فعلت العديد من الدول.

وعلى رغم أنّ هذه الاتهامات تبدو في مكانٍ ما "ظالِمة" للحكومة، خصوصاً أنّ الفيروس وجد طريقه إلى معظم دول العالم، وبينها دولٌ مصنّفة بالعظمى لم تنجح لا في ضبطه ولا في السيطرة عليه، فإنّ "مكمن الداء" برأي المُنتقدين يبقى في كون الحكومة "سيّست" الملفّ، ولم "تجرؤ" على وقف الرحلات مع ​إيران​، حتى بعدما أعلن الإيرانيون أنفسهم ما يشبه "حظر التجوّل" في مناطق باتت بحكم "الموبوءة"، فضلاً عن عدم القدرة على ضبط "الإشاعات" التي بثّت حال "رعب" مُبالَغٍ بها بين الناس.

وإذا كان هناك من ينتقد الإجراءات التي تمّ اتخاذها في ​المطار​، والتي تقتصر على "أخذ الحرارة"، وهي إجراءات تبدو صوَريّة وشكليّة، خصوصاً أنّ الرهان على "العزل الذاتي" لا يبدو في مكانه، في ضوء غياب ثقافة "الوعي" لدى المواطنين، فإنّ الخشية الأكبر تبقى بما يمكن أن يتكشّف خلال الأسبوعين المقبلين من أرقامٍ مضاعَفة لعدد الإصابات، بعد انتهاء فترة "حضانة" الفيروس، إذا صحّت التقديرات، الأمر الذي تعزّز من دقّته كلّ التقارير التي تتحدّث عن "عدم الجاهزية" للتعامل مع الوباء، إذا ما انتشر.

مُحِقٌ ولكن!

يختصر رئيس الحكومة المأزق الذي يعيشه، بعدما أصبح في صلب صناعة القرار، بقوله "إننا اليوم أمام معضلات كبرى، فيما آليّات ​الدولة​ مكبَّلة بقيودٍ طائفيّة وجنازير فساد وأثقال حسابات فئوية متعدّدة وفقدان توازن في الإدارة وانعدام رؤية في المؤسسات".

لا شكّ أنّ الرجل مُحِقّ في ذلك، ولا شكّ أنّ الصورة التي يرسمها تعكس حقيقة الوضع "السوداوي" الذي تشهده الدولة، نتيجة سياساتٍ متراكمةٍ أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه، ويتشارك الجميع المسؤولية عنها، ولو بنسبٍ متفاوتة.

لكنّ الظرف الحاليّ لا يبدو مناسباً لا للبكاء على الأطلال، ولا لتقاذف المسؤوليّة ورمي كرتها على نظامٍ من هنا، أو تركيبةٍ من هناك، أو حتى نهج محاصصةٍ بين الإثنين، خصوصاً أنّ دياب يوم أتى على "الحصان الأبيض" كان يدرك كلّ ما يشكو منه اليوم.

باختصار، الوقت ليس وقت استعراضٍ، ولا اتهام. الوقت وقت عمل، وعلى هذا الأساس، لا خيار أمام الحكومة سوى المبادرة فوراً، وقبل فوات الأوان، وبنتيجة ذلك فقط، تحدّد مصيرها، فإما تُكرَم، أو تُهان...