اعتَدنا ونحن صغار، أن نذهب إلى حقلِنا الكائن قُرب بيتنا ونتسلّق الشجرة الأعلى فيه، ونُلقي بِأنَفسِنا إلى الأرض ونحن نُرَدِّ العبارة التالية: "إمّي كبّتني والعدرا استلقّتني". كُنّا نُعرِّض أنفسنا للخطر الشّديد ظنّاً منّا بأنّ ​العذراء​ مريم سوف تُنَجّينا فلا نتأذّى. ولكن ما كان يحدث لَم يكُن على قدر ما كنّا نتوقّعه من العذراء؛ فمنّا مَن كان يقع على رأسه ويُصاب بارتجاجٍ دماغيّ، ومنا مَن كان يقع على يده فتنكسر، ومنّا مَن تحطّمت رِجلُه، ومِنّا مَن... أين كانت العذراء ممّا كنّا نفعله، ولِمَ لَم تستلقينا؟ الجواب على هذا السؤال نسمعه في ​إنجيل​ التجارب وهو يأتي على لسان يسوع نفسه.

"لا تُجرّب الربّ إلهك"(متى4: 7)، بهذه الكلمات أجاب يسوع إبليس الذي أصعده على شرفة الهيكل ودعاه إلى أن يُلقي بنفسه إلى أسفل، وهي الملائكة تأتي إلى نُصرته فلا يتأذّى (متى4: 4-6).

يُجرِّب ​الإنسان​ الربّ، عندما يُعرِّض نفسه للخَطر ويتّكل على الربّ لكي يُنقذه. ويسوع رفض هذه المعادلة الخبيثة التي أتاه بها إبليس، فالحكمة تقتضي بأن ينأى الإنسان بنفسِه عن الخطر المُميت من دون أن يعني ذلِك ضُعفاً في الإيمان ونقصاً في الروحانيّة. هذا ما يجدر بِنا أن نَعيَه. لقد أعطانا الله عقلاً وسكب فيه أنوار حكمته لكي نتدبّر أمورنا ونُميّز به الخير من الشّر ونبتعد عن الشرّ. الإيمان والحكمة صِنوان لا يفترفان، وما دونهما أُصوليّةٌ وتحجُّرٌ وتزمّتٌ وغوغائيّة مقيتة: "كونوا حُكماء كالحيّات ووُدعاء كالحمام"(متى10: 16)، قال يسوع.

للأسف الشديد، نقرأ على صفحات التواصل الإجتماعي التعليقات والردود ذات الصِلةٍ بالوباء الفتّاك، لا ترقى إلى مستوى الإيمان العاقل ولا إلى مستوى الطّاعة للكنيسة المُعلِّمة، وينطبق عليها المَثل القائل "كلّ مين إيدوا إلو". هناك صبيانيّة في التعاطي مع الخطر الذي، إن لَم ننتبه منه، سيفتك بِنا لا محالة. لست أدري أين هي الحكمة من أن نُعرّض أنفسنا لخطر الموت ونُعرِّض المؤمنين معنا للخطر نفسه، بحجّة أنّ عندنا قديسين في ​لبنان​ لا يتركوننا! وبحجّة أنّنا نتناول جسد ​المسيح​ الذي يقهر المرض! أليس للإيطاليين والكوريين والإيرانيين والصّينيين وغيرهم من شعوب الأرض، قديسين وأولياء يشفعون بِهم، أم هؤلاء كلّهم أبناء الغريبة؟ ألا يتناول المسيحيّون الموزَّعون في ​العالم​ كلّه جسد المسيح، فلِماذا أصابتهم العدوى إذاً؟ أتراهُ الله يُفضّل شعباً على آخر، وبلداً على آخر، وأُمّة على أُخرى وجماعة على أُخرى؟ ألا يُسيىء المسيحيّون إلى الإنسان عندما يُرَوّجون لمُعتقداتٍ كهذه أقرب إلى الصّبيانيّة الدينيّة منها إلى حكمة الله؟ مَن يظُنّ بأن الوباء لَن يفتك به لأنّه مؤمن ويتناول جسد المسيح، هو مُجَرِّب للرّب! ومَن يظنّ بأنّ من اختصاص القديسين وصف أدوية طبيّة والإهتمام به دون غيره، هو متكبّر! ومَن يظنّ بأنَّ الفيروس يقضي على غير المؤمنين أو على ضِعاف الإيمان فهو يُسيء إلى أبوّة الله الذي هو إله الجميع وأبُ الجميع، الذي يُشرِق شمسه ويمطر غيثه على الجميع حدٍّ سواء(متى5: 45). ومَن يظنّ أيضاً بأنَّ عليه الإختيار بين الإيمان والعقل، هو غير عاقل، إذ ليس على الإيمان التقليل من شأن العقل ولا على العقل الإستهزاء بالإيمان.

في الختام، إنّ أسوأ ما نشهده في هذه الفترة، هو كثرة البضاعة المُسمّاة رّوحيّة التي تُعرض على وسائل التواصل الإجتماعي، وتفتح الباب واسِعاً أمام "الفانتسما الرّوحيّة"، التي تُحرّف العقيدة وتعرقِل بناء القامة الرّوحية، وترمي المؤمن في بحر الشكوك والأزمات.

وفي المُحصّلة، إنّ تعريض ​الحياة​ للخطر لا يُسيء إلى الإنسان المدعو إلى أن يُحبّ نفسه فيحميها من الوباء الذي يفتك بالجسد والنّفس ولا يُخاطر بحياته ولا بخلاصه وحسب. بل وإلى الله أيضاً خالق الإنسان وأناره بأنوار الحكمة الإلهيّة لكي يعرف الحق ويسير بهديه... و​السلام​.