في عزّ الأزمات الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة التي لا تنتهي، والتي لم يكن ينقصها سوى تفشّي وباء "​الكورونا​" على امتداد الأراضي ال​لبنان​ية، يستمرّ الانقسام السياسيّ الذي أفرزه الحراك الشعبيّ، وما تلاه من استقالة حكومة وولادة أخرى، في الطغيان على كلّ ما عداه من استحقاقات واهتمامات.

تجلّى هذا الانقسام بوضوح بعد إعلان رئيس ​الحكومة​ حسّان دياب نهاية الأسبوع الماضي تخلّف لبنان عن دفع استحقاق "اليوروبوند"، إعلانٌ لم يُستتبَع بـ"اتحاد" اللبنانيين لمواجهة تبعات مثل هذه الخطوة، التي يؤكد العارفون أنها جاءت وفق منطق "مُكرهٌ أخاك لا بطل"، بل استُغِلّت في إطار "النكايات" السياسيّة، على كثرتها.

لكن، أبعد من التوظيف السياسيّ الآنيّ، ثمّة من يسأل عن موقع المعارضة بمكوّناتها المختلفة، ولا سيما القوى التي تعاقبت على الحكم طيلة السنوات الفائتة، من أيّ خطّة "إنقاذ" يمكن أن تعلنها الحكومة، فهل تكون "شريكة" في مثل هذه الخطّة، تصميماً وتنفيذاً، أم تختار التصدّي لها على طريقة "الشعبوية"، مهما كان الثمن؟!.

المعارضة منقسمة...

قبل الحديث عن تباينٍ في الموقف بين الموالاة والمعارضة في مقاربة الوضع الحاليّ، على دقّته بل خطورته وحساسيّته، قد يكون من المفيد التوقف عند التباين الحاصل في صفوف المعارضة، التي يغرّد كلّ من مكوّناتها على ليلاه، ليس على مستوى كلّ الاستحقاقات، بل على مقاربة الملفّ الماليّ بحدّ ذاته، بمُعزَلٍ عن غيره من القضايا الشائكة.

فإذا كانت معارضة الحكومة "جامعةً" للكثير من الأحزاب التي لطالما شكّلت جزءاً لا يتجزّأ من الطبقة الحاكمة، على غرار "​تيار المستقبل​" و"​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، بالإضافة إلى حزبي "​الكتائب​" و"​القوات​"، فإنّ الواضح أنّ لكلّ من هذه الأحزاب "أجندتها" الخاصة في المعارضة، وخلفها حساباتٌ واعتباراتٌ مختلفة.

ولعلّ "تيار المستقبل" يجد نفسه متقدّماً على صعيد المعارضة "المُطلَقة" للحكومة، قبل الاطّلاع حتى على خططها وبرامجها، وهو ما تجلّى في بيانه الأخير الذي رفض ما أسماه "انقلاباً على النموذج الاقتصادي اللبناني" يخفي بين طيّاته "تحريضاً على السياسات الاقتصادية". ويردّ "المستقبليّون" ذلك إلى الهجوم الذي شنّه عليهم رئيس الحكومة حسّان دياب نفسه، بشكلٍ استباقيّ، عبر الحديث عن "أوركسترا" وغيرها، علماً أنّهم لا يعتبرون الغمز المتكرّر من قناة "الحريرية السياسية" بريئاً، بل محاولة مكشوفة لتبرير "​العجز​" الذي اصطدمت به حكومته سريعاً، عبر رمي الكرة في ملعب غيرها، في الوقت غير المناسب.

لكن، لا يبدو أنّ سائر مكوّنات المعارضة تشارك "المستقبل" الهمّ نفسه في الدفاع المستميت عن النهج الاقتصادي الذي طبع البلاد طيلة سنوات، بل إنّ بينها من يجد نفسه أكثر ميلاً إلى "تحييد" نفسه عن هذا النهج، ولو شارك في الحكم تحت لوائه، أو بالحدّ الأدنى على طرح "أولويات" أخرى في المعارضة، كالدعوة إلى انتخاباتٍ مبكرة، على رغم إدراك الجميع أنها باتت مُستبعَدة اليوم، حتى أنّ الحليف الأقرب لـ "المستقبل" اليوم، أي "الحزب التقدمي الاشتراكي"، يصرّ على ضرورة منح الحكومة "فرصتها"، باعتبار أنّ لا بدائل متوافرة في الوقت الراهن.

أين الخطّة؟!

لا تبدو المعارضة موحَّدة في مقاربة الاستحقاق الماليّ والنقديّ، تماماً كما لا تبدو منسجمة في ما بينها على مقاربة مختلف التحديات المطروحة أمامها، من ​الانتخابات​ المبكرة، مروراً بطبيعة ​قانون الانتخاب​ المُنتظَر، وصولاً إلى آليات ​مكافحة الفساد​، وطبيعة النظام الاقتصادي المطلوب في المرحلة المقبلة.

لكنّ هذه المكوّنات، على اختلافها، تتّفق على أنّ "تشخيص" الداء يجب أن ينطلق من مكانٍ آخر، وتحديداً من قلب الحكومة، إذ قبل انتقاد المعارضة على موقفها غير الموحَّد، ولا شيء يوجب ذلك بطبيعة الحال، فمن الأوْلى السؤال عن موقف الحكومة، والتي جاءت أصلاً ممثّلة لتحالفٍ سياسيّ واضح ومعروف، بعد "إقصاء" كلّ الأطراف الأخرى، ولو كان ذلك بإرادتها.

ولعلّ السؤال الأبرز الذي يطرحه المعارضون على من يسألهم عن موقعهم من "خطة الإنقاذ"، يتخلص بـ"أين الخطة أصلاً؟!". ويشرح هؤلاء أنّ انتقاد إعلان رئيس الحكومة التخلّف عن دفع سندات "اليوروبوند" جاء بالدرجة الأولى لأنّه لم يُستتبَع بإعلانٍ واضحٍ عن الخطة الموعودة، والتي لا تزال حتى إشعارٍ آخر في إطار "الاشباح"، بل جاء خالياً من أيّ إشارةٍ إلى "الإصلاحات" التي باتت أكثر من ضرورة في سبيل المواجهة، علماً أنّ التسريبات عن "انقسام" الحكومة في مقاربة هذه الخطة تكاد تشكّل "دليل إدانة" للوزراء، لا ينفع معه تقاذف كرة المسؤولية.

ولعلّ كلام "​حزب الله​" الواضح في هذا الإطار عن رفض التعاون مع ​صندوق النقد​ الدولي، في مقابل اعتبار العديد من الوزراء في الحكومة أنّ مثل هذا التعاون بات "إلزامياً"، يكفي لإظهار "عدم الجدية" من جانب الحكومة في التعامل مع الموضوع، علماً أنّ ثمّة من يضع الأمر في إطار "الشعبوية" أيضاً وأيضاً، خصوصاً في ضوء ما يُحكى عن "شروط" صندوق النقد، والتي تتضمّن فرض المزيد من ​الضرائب​ على المواطنين، وهو ما يدرك الجميع أنّه قد يكون عنواناً لتجدّد "​الثورة​" في وجه الطبقة الحاكمة، ولو أصرّ كثيرون على أنّ لا مفرّ منها في نهاية المطاف.

مقوّمات "الإنقاذ"!

لا شكّ أنّ الظرف الحاليّ ليس الأنسب لتقاذف كرة المسؤولية بين "شركاء" العقود الماضية، أو تبادل الاتّهامات في ما بينهم، أو حتى اللجوء إلى "الشعبويّة" في سبيل تحصيل مكاسب آنيّة محدودة من هنا أو هناك، فيما البلد "ينهار"، باعتراف الجميع أنفسهم.

فأبعد من رغبة الحكومة بإبعاد "كرة النار" عن نفسها، ووضعها على عاتق المتعاقبين على الحكم منذ ​الطائف​ وربما ما قبله، وأعمق من توق المعارضة إلى "شعبوية" تحميها من تردّدات الإفلاس والانهيار، إذا ما حصل، ثمّة مسؤوليّة جماعيّة يفترض بالجميع تلقّفها، قبل فوات الأوان.

ومع أنّ "الشراكة" بين الموالاة والمعارضة تبدو صعبة المنال حتى إشعارٍ آخر، بالنظر إلى التباينات داخل كلّ فريقٍ أصلاً بمُعزَلٍ عن الآخر، فإنّ الأكيد أنّ مقوّمات "الإنقاذ" تتطلّب أكثر من ذلك بكثير، حتى لا يصبح "البكاء على الأطلال" أفضل الممكن، في وقتٍ قد لا يكون بعيداً...