مع الحديث عن انهماك الحكومة بالعمل على وضع خطة اقتصادية للنهوض بالاقتصاد اللبناني، الذي يعاني من أزمة عميقة تجسدتبوصول الدولة الي مرحلة العجز عن الاستمرار في دفع استحقاق الدينوالفوائد المترتبة عليه، وبالتالي العجز عن مواصلة سياسة تثبيت سعرصرف الليرة ازاء الدولار، واستطرادا تفاقم الأزمة الاجتماعية.. بعدذلك يتوجب التأكيد على بعض الحقائق الهامة، التي يفترض ان تأخذبعين الاعتبار خلال مناقشة الخطة الاقتصادية.. وهذه الحقائق هي..

الحقيقة الأولى، وهي من الأمور الاساسية التي اكدتها تجارب تطبيقوصفة النيوليبرالية الأمريكية في السياسات الاقتصادية للكثير منالدول، التي سحرت بهذه الوصفة، ومنها لبنان، البرهان، بما لا يدعمجالا للشك، ان هذه الوصفة مولدة للأزمات المالية والاقتصاديةوالاجتماعية، كونها ترتكز على الاقتصاد القائم على الريع والخصخصة،والمزيد من الضرائب غير المباشرة، وإهمال تام لقطاعات الانتاج، منزراعة وصناعة.. لقد كان من بديهيات الأمور أن تقود هذه الوصفات إلىتدمير قطاعات الانتاج، وتراجع مداخيل الدولة، والتسبب بالعجزالمستمر في الميزان التجاري، حيث بات لبنان يستورد ما قيمته ٢٠ ملياردولار، ويصدر نحو ٣ مليارات دولار، وكان يجري معالجة هذا العجز عبرالاستدانة التي ادت بدورها إلى التسبب بعجز في الموازنة العامةللدولة، اخذ يتزايد عاما بعد عام حتى بلغ مستويات لم يعد بالإمكانالتعايش معه وتحمله.. واستنزاف احتياطات البلاد من العملاتالصعبة.. فبات لبنان يئن من أزمات مالية، واقتصادية، واجتماعية، غيرمسبوقة في تاريخه الحديث.. فكان انفجار انتفاضة ١٧ تشرين الاولالماضي بمثابة تعبير صارخ عن حجم الازمة العاصفة بالبلاد.. وتوقفلبنان عن دفع سندات الدين والفوائد..

الحقيقة الثانية، اذا كان النموذج النيوليبرالي الريعي قد تأكد فشله قبلاندلاع الحرب العالمية مع فايروس كورونا ، فإن أحد أهم دروس كوروناهو تأكيده مجددا سقوط هذا النموذج الريعي، حيث تبين ان الدول التيتعتمد النهج النيوليبرالي، كانت عاجزة عن مواجهة كورونا، بسببتخصيص الخدمات الصحية والاجتماعية، وتخلي الدولة عن القيامبهذه الوظيفة.. ولهذا وجدنا الولايات المتحدة، وهي الدولة الأكثرتطورا والاقوى، تفتقد الامكانيات والمستلزمات الطبية لمواجهة اجتياحكورونا لها، وهو ما حصل أيضا في العديد من دول أوروبا، والسبب انالدول النيوليبرالية تخلت عن القيام بدور الرعاية الصحية والاجتماعيةلمصلحة القطاع الخاص، فكان من البديهي ان لا تكون بناها الصحيةمستعدة ومجهزة لمواجهة أزمة من هذا النوع وبالتالي ينكشف عجزهاوهشاشتها.. على أن الازمة كشفت في لبنان، مدى ضعف بنى القطاعالصحي التابع للدولة، والنقص الكبير في احتياجاته ومستلزماته، والتييجري التعويض عنها اليوم بالمساهمات من قبل بعض الاحزابالوطنية، والتي يأتي في مقدمها مساهة حزب الله الذي قدم القدراتوالامكانيات والتجهيزات والكادرات الطبية والخدمات الاجتماعيةالهامة والكبيرة، التي استنفرها ووضعها في خدمة الحرب ضد كورونا..كما تأتي بالدرجة الثانية مساهمة التيار الوطني الحر، وغيرها منالمساهمات الحزبية، كل ذلك ساهم في تخفيف الاعباء عن كاهلالحكومة..

الحقيقة الثالثة، تأكد مدى الحاجة الماسة للعودة إلى الاقتصادالإنتاجي باعتباره هو مصدر إنتاج الثروة وتحقيق النمو الحقيقي،واستطرادا توفير فرص العمل.. لاسيما ان الدول في مرحلة الأزماتالكبرى في العالم، والتي تفرض اهتمام الدول باوضاعها الوطنية،ينحول الانتاج الزراعي والصناعي المرتكز الأساسي للصمود وتأمينالاحتياجات الاساسية، وهو امر تم تلمسه بشكل واضح في الجمهوريةالإسلامية الايرانية، التي لم تكن لتنجح في مواجهة انتشار وبادكورونا، رغم استمرار الحصار المالي والاقتصادي الأمريكي الاجرامي،والذي يشمل المستلزمات والاجهزة الطبية، لو لم تبن اقتصادا تنموياانتاجيا، وتحقق الاكتفاء الذاتي من احتياجاتها الاساسية، ولو لم تملكالدولة فيها البنية الصحية والاجتماعية التي قامت بدور جبار فيمكافحة الوباء ومحاصرته وتوفير المساعدات الاجتماعية لملايينالإيرانيين من ذوي الدخل المحدود..

ان هذه الحقائق تستدعي من الحكومة وهي تنكب على دراسة الخطةالاقتصادية، ان تأخذها باعتبارها اساسا يجب أن تبني على أساسهالخطة.. لانه لا يجوز مطلقا ان نعود إلى إنتاج نفس السياسات التيتسببت بالازمات الخانقة للاقتصاد والمجتمع على حد سواء.. كما أنالحكومة اذا كانت تريد فعلا ان تكون حكومة إنقاذ اقتصادي ونهوضعليها ان تبني خطتها بالاستناد إلى النتائج والخلاصات التي اكدتهاوتمخض عنها انتهاج لبنان السياسات النيوليبرالية الريعية منذ عام١٩٩٣ وحتى اليوم، والتي تؤكد ان الإبتعاد عن التنمية ودعم الانتاجالوطني كان هو السبب الأساسي في الازمات العاصفة بالبلاد على غيرصعيد.. كما أن اي خطة للنهوض تكون ركيزتها الاقتصاد الإنتاجي يجبأن ترتبط، ايضا بالضرورة، بحزمة من الخطوات لتوفير وسائل الدعمللزراعة والصناعة، وتكنولوجيا المعلومات، وبالتالي العمل على إيجادالأسواق لتصدير المنتجات والسلع اللبنانية، وهذا يتطلب بالضرورةالاتصال بالحكومات العربية بدءا بالشقيقة سورية، ممر لبنان البري إلىالاسواق العربية، لاسيما العراقية والخليجية.. فالانفتاح على سوريةمصلحة لبنانية بالدرجة الأولى.. وان الحكومة يجب أن تضع باعتبارهاان لا خيار اخر أمامها للنهوض بالاقتصاد الوطني سوى التوجه شرقابداية بسورية، مرورا بالعراق وإيران، ووصولا إلى الصين وروسيا..لاسيما وان المراهنة على انتظار مساعدات خارجية من دول الغرب إنماهي مراهنة عقيمة، خصوصا بعد الازمة التي تعصف باقتصاديات الدولالغربية، كما غيرها من الدول،

، نتيجة حرب كورونا، التي ادت إلى ركودفي الاقتصاد العالمي وخسائر تقدر بعدة تريليونات من الدولارات..ولهذا ان أوان اتخاذ قرار الاتجاه شرقا.. حيث بات، ينتقل اليه، مركزالثقل في الاقتصاد العالمي، والعديد من الدول في العالم أصبحت تبنيسياساتها وتوجهاتها على هذا الأساس.. حتى الولايات المتحدة، مثلا، لاتستطيع مقاطعة الصين، ومضطرة إلى التفاهم معهما، لتنظيم العلاقاتالتجارية معها، فيما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اضطر، بعد انكشافالنقص الكبير في قدرات أمريكا على مواجهة انتشار كورونا، الىالاتصال بنظيره الصيني شي جين بينغ وطلب المساعدة منه.. فيالوقت نفسه لجأت إيطاليا وفرنسا وإسبانيا إلى طلب المساعداتالطبية من الصين التي ارسلت الخبراء واطنان المعدات والتجهيزاتالطبية إلى هذه الدول، وغيرها.. والتوجه شرقا لا يعني القطيعة معالدول الغربية، وإنما يجب تبني الحكومة علاقاتها مع كل دول العالم،وتنهج نهجا متوازنا ، ينطلق من مصلحة لبنان…