يوم الخميس الّذي يعرف ب​خميس الأسرار​، اجتمع يسوع النّاصريّ، مع تلاميذه، بعدما طلب من ثلاثة منهم، تحضير عشاء ​الفصح​، أي عشاء العبور، أو تذكار عبور الشّعب اليهوديّ الصّحراء. فلم يعبّر يسوع، قبل العشاء، عن لذة تناول الطّعام مع تلاميذه، بل عن اشتهائه، من خلال استعماله الفعل "أشتهي"، مع ما يشير إليه هذا الفعل من معاني حركة النّفس، طلبًا للذّة ماديّة تجعل المرء أمام طاقة لا إراديّة، تبحث عن الغاية. بيد أنّ كلّ التعاليم الإلهيّة، كما الأديان كافّة، تعلّم السّيطرة على الشّهوات الماديّة، من أجل اللّذة الرّوحيّة.

وفي هذا العشاء الرّوحيّ الفصحيّ، أسّس يسوع، مع تلاميذه، سرّين أساسيّين، في ​الحياة​ ​المسيح​يّة: الأوّل، هو الإفخارستيّا، بما تعنيه هذه الكلمة، في أصلها اليونانيّ، وهو "الشّكر"، والثّاني، سرّ الكهنوت، وهو سرّ خدمة بقيّة الأسرار المقدّسة.

في أثناء ذلك العشاء، قال السّيّد المسيح الكلام الجوهريّ الّذي مازال يُردّد، في كلّ ذبيحة إلهيّة، عند ​تقديس​ ​الخبز​، وكسره، بما معناه: "خذوا، كلوا، هذا هو جسدي، يُعطى من أجلكم، ومن أجل الكثرين؛ وكذلك، عند تقديس الكأس الممزوجة خمرًا وماء، قال: خذوا اشربوا، هذا هو دمي، دم العهد الجديد".

بدءًا من تلك اللّيلة، وإلى زمننا الرّاهن، تحتفل الكنيسة، مع المؤمنين، بهذا السّرّ المقدّس كأعظم صلاة تُقدّم إلى الله الآب، على الأرض، في احتفال ليتورجيّ، لا كذكرى.

وفي المقابل، يقول لنا التّقليد إنّ مريم، في تلك اللّيلة المقدّسة، كانت تملؤها الحيرة، إذ كانت تشعر بثقلها الغريب، تنتظر ما سيحدث بألم المخاض للخلق الجديد. أمّا التّلاميذ فلم يستطيعوا أن يحاربوا النّعاس، ليسهروا مع يسوع، وهذا ما جعله يقول لبطرس: "إنّ الرّوح مستعدّ، أمّا الجسد فضعيف".

كلّ تلك الأحداث، على عظمتها، في تلك اللّيلة، لم يترك يسوع وصيته الأغلى، على هذه الفانية، والّتي هي: "أحبّوا بعضكم بعضًا"، بل ترك، على هذه البسيطة، جوهره الإلهيّ، أي جسده السّرّيّ، بشكل الخبز والخمر. كذلك لم تمنع اللّيلة المقدّسة تلك، يهوذا الإسخريوطيّ من خيانة معلّمه، بثلاثين من الفضّة.

أمام هذه المشهديّة العظيمة في التّاريخ، لم يكن ​العالم​ آنذاك، مدركًا قيمة هذه الأحداث الخلاصيّة الّتي ستبقى آثارها حتّى انتهاء العالم، لا بل إلى الأبد.

وكأنّنا، في هذا الزّمان الرّاهن، ونحن نواجه أزمة وباء ​الكورونا​، نسأل: هل نعيش كبقيّة الشّعوب في زمن المسيح، أم نتأمّل في جوهر هذا الخلاص؟ أم يصدق علينا القول: "لا ندرك قيمة إلّا بعد فقدانها"؟. علينا، أمام هذا الواقع الجديد، أن نستعيد، بفحص ضمير حيّ، ما دامت فينا الحياة، كم مرّة فضّلنا القشور على الجوهر، والشّهوات والأهواء المادّيّة على اللّذّة الرّوحيّة؟ وكم من المرّات لم نشارك في القدّاس الإلهيّ، مبرّرين أعذارنا، أمام الله العارف بخبايا الضّمير؟

إلّا أنّ المسيح، ابن الله الحيّ، سيّد الزّمان، الّذي لا بداية له، ولا نهاية، وهو الألف والياء، وهو الله، قد حمل، في فكره، في تلك العشيّة، ​الإنسان​، كلّ إنسان باسمه، بمن فيهم "أنا". من أجل ذلك، أعتقدُ أنّها كانت ليلة ثقيلة، قبل أن يقدّم ذاته بكلّيتها، ذبيحة عن خطايا العالم.

نعم! لعلّ الآلاف، لا بل الملايين، بل أكثر من مليار مسيحيّ، في العالم، يشتهي، بكيانه الإنسانيّ، أن يشارك في هذا الحدث الخلاصيّ، بطريقة فعليّة، وليس بنيّة افتراضيّة.

نعم! إنّ الله، وحده، مَن يحاسب على النّيّة؛ فلتكن نوايانا صالحة، ونظيفة، ونقيّة، ولنقطع، على ذواتنا الوعود الصّادقة، لنقبلَ الخلاص بالرّوح، وبطريقة استثنائيّة.

ولتكن هذه اللّيلة، بالفعل، لا بالقول، خميس الأسرار الّتي تدعونا إلى أن نكون، دومًا، متيقّظين، لأنّ الله يستعمل كلّ شيء لخلاص الإنسان.