لم تكد ​الحكومة​ تخفّف إجراءات التعبئة العامة التي فرضتها على وقع تفشّي وباء "​كورونا​"، حتى "التهب" الشارع من جديد، مستعيداً المَشهَد نفسه الذي كان عليه قبل أكثر من ثلاثة أشهر، مع إضافة بعض عناصر "الفوضى" التي عمّت المناطق، بدءاً من عاصمة الشمال ​طرابلس​، وصولاً إلى بيروت وغيرها.

وإذا كان لدى الشارع كلّ المبرّرات والمقوّمات المطلوبة لـ "تحدّي" كلّ المعوقات، ولا سيما الصحية، باعتبار أنّ تفاقم الأزمة الاقتصادية ينذر بانفجارٍ اجتماعيّ تكاد تداعياته تتفوّق على أكثر سيناريوهات "كورونا" سوداويّةً، فإنّ علامات استفهامٍ أثيرت عن "الاستغلال السياسيّ" لما حصل، على جري العادة.

ولعلّ اللافت في هذا السياق، أنّ قوى الموالاة والمعارضة، الشريكة في إيصال البلاد إلى ما وصلت إليه، تفرّغت خلال الساعات الماضية، لتبادل الاتهامات وتقاذف المسؤوليات حول ما جرى ويجري، وسط شبه "توافق" على أنّ بعض معالم الحراك المستجدّ تفتقد إلى "البراءة والعفويّة"، وهنا بيت القصيد.

الشارع لا يُلام...

من حيث المبدأ، وبعيداً عن موجات "الاستغلال"، وربما محاولات حرف "​الحراك الشعبي​" عن مساره، وهي التي انطلقت منذ اليوم الأول لاندلاع "انتفاضة" اللبنانيين في السابع عشر من تشرين الأول، ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها، وبمُعزَلٍ عن أشكال "العنف" التي تخلّلت الحراك، وإن كان البعض مقتنعاً بأنّها من "مقتضيات" أيّ "ثورة"، إن كانت جدّية وحقيقيّة، فإنّ الأمر الثابت الوحيد قد يكون أنّ الشعب لا يُلام إذا ما عاد إلى الشارع، بعدما وفّرت له السلطة، بشقّيها المُوالي والمُعارِض، كلّ المقوّمات المطلوبة لذلك.

ولعلّ نظرةً بسيطةً إلى واقع الحال اللبنانيّ اليوم تكفي لتبرير "تمرّد" المواطنين على إجراءات "كورونا" وغيرها، باعتبار أنّ الأغلبية الساحقة من اللبنانيّين باتت مقتنعة بأنّ "الجوع" لم يعد كافراً فحسب، بل قاتلاً أيضاً، في ظلّ المعطيات الآنيّة، وإنّ الخطر الناجم عنه يفوق خطر "كورونا" بأشواط كثيرة. وخير دليلٍ على ذلك يتمثل بـ "احتضار" مختلف القطاعات الحيويّة، على وقع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة، وارتفاع ​سعر الدولار​ مقارنةً ب​الليرة اللبنانية​، ووصوله إلى معدّلاتٍ قياسيّة غير مسبوقة، وانعكاس ذلك "تضخّماً" هائلاً في الأسعار، يفوق قدرة اللبنانيين، الذين فقدت رواتبهم، إن وُجِدت أصلاً، وإن "صمدت" كما هي في حال وجودها، أكثر من نصف قيمتها بالحدّ الأدنى.

الشارع لا يُلام أيضاً إن عاد إلى "زخمه"، بعدما وجد أنّ "مهلة السماح" التي قرّر إعطاءها للحكومة، سواء ذاتياً أو قسرياً، اعتُبِرت "أبديّة" بنظر البعض، ولم تُوظَّف لصالح "الإنقاذ"، بقدر ما اعتُمِدت مطيّة للمضيّ إلى الأمام وكأنّ شيئاً لم يكن، بل وُضعت الأولويّة فيها لتعميق "النكايات" بين الموالاة والمعارضة، وهو ما تُرجِم مثلاً في ​جلسة مجلس النواب​ الأخيرة، والتي تحوّلت إلى مسرحيّة استعراضيّة، أو حلبة صراع، بين "الجبهتين"، حتى في ما يتعلق بحقوق الناس التي باتت خاضعة لـ "البازار" السياسيّ، بشكلٍ تجلّى بوضوح، أو ربما بوقاحة، في طريقة انتهاء الجلسة، و"تطيير" نصابها، وما نجم عنه من "معارك" بين "رفاق الصفّ الواحد".

اتهاماتٌ بالجملة...

لكن، إذا كان الشارع "مُحِقّاً" في تجديد "ثورته" وانتفاضته على الطبقة الحاكمة، بمختلف فروعها، السابقة والحاليّة، بمُعزَلٍ عن المسار الذي اتّجهت إليه الأمور من عنفٍ وتخريب وغير ذلك، باعتبار أنّ "البدائل" لم تعد متوافرة أصلاً، فإنّ ذلك لم يحجب "الاستغلال السياسي" عن الحدث، والذي تُرجِم سريعاً باتهاماتٍ متبادَلة بين الموالاة والمعارضة، عمّن استدرج "الحراك" أصلاً، ومن دخل على خطّه بشكلٍ أو بآخر.

وقد يكون ما قاله رئيس الحكومة حسّان دياب خلال جلسة ​مجلس الوزراء​، كافياً ووافياً للتعبير عن موقف "السلطة" من الحراك المستجدّ، سواء لجهة اعتباره "طبيعياً"، بعدما تبيّن للناس "وجود محاولات سياسية لمنع الحكومة من فتح ملفات ​الفساد​"، أو لجهة اتهام خصومه بالدخول على خطّه، وتوظيفه لخدمة مآربهم الخاصة، من خلال رفضه ما أسماها صراحةً "المحاولات الخبيثة لتحويله إلى حالة شغب، وبالتالي الاستثمار السياسي في حالة الشغب لخدمة مطامع ومصارح وحسابات شخصية وسياسية".

وما قاله دياب أضاف إليه الكثير من داعمي الحكومة ومواليها، ممّن طرحوا علامات استفهام بالجملة عن "الحراك السياسي" المستجدّ الذي استبق "انفجار" الشارع، سواء لجهة الإطلالات الإعلاميّة لبعض المعارضين، ممّن يندرجون ضمن فريق الرابع عشر من آذار، والتي تكثّفت بقدرة قادر في الساعات الأخيرة، أو حتى لجهة عودة رئيس الحكومة الأسبق ​سعد الحريري​ إلى البلاد قبل ذلك بأيام، وفي عزّ "كورونا"، ومن دون أيّ مقدّمات، ما أوحى وكأنّ شيئاً ما يُحضَّر، علماً أنّ "رياح" الحراك لم تجرِ كما تشتهي "سفن" هؤلاء، بدليل أنّ الغضب "انصبّ" بشكلٍ رئيسيّ على ​القطاع المصرفي​ّ.

وفي المقابل، كان المعارضون يوجّهون الاتهامات إلى الحكومة بأنّها من "استدرجت" الناس إلى الشارع من جديد، وبشكلٍ أكثر عنفاً من أيّ وقتٍ مضى، بعدما أيقنوا أنّ كلّ "وعودها" تبخّرت، خصوصاً أنّها لم تحقّق أيّ "إنجازٍ" يُذكر حتى اليوم، بعيداً عن تأجيل ​التعيينات​ المالية، وعرقلة التشكيلات القضائية، وتشكيل اللجان من كلّ حدبٍ وصوب، حتى أنّها "استنفدت" فرصتها من دون أن تقدّم للبنانيّين خطّة اقتصاديّة واضحة وشفّافة، بعيداً عن "البروباغندا" التي يعتمدها عرّابوها. ولعلّ الأسوأ من كلّ ذلك، برأي هؤلاء، يبقى أنّ هذه الحكومة هي التي "حرّضت" اللبنانيين على القطاع المصرفي، بعدما سجّل رئيسها "سابقةً" بتوجيه انتقاداتٍ مباشرةٍ إلى حاكم ​مصرف لبنان​، في ما يشبه "المحاكمة الصوَريّة"، بدل أن يلجأ مثلاً إلى "مساءلته" أو "محاسبته" إذا ما كانت لديه إثباتاتٌ على كلامه، بعيداً عن "النكايات الشخصيّة".

حقّ بديهيّ!

في خطابه الأخير الذي سعى من خلاله إلى "مصارحة" اللبنانيين، "شكا" حسّان دياب محاولات البعض محاسبة حكومته، وكأنّها في الحكومة منذ 73 شهراً، وربما أكثر.

قد يكون دياب مُحِقّاً في اعتبار أنّ "التحريض" على الحكومة يفوق قدراتها، هي التي جاءت في توقيتٍ "حسّاس" لمواجهة تحدّياتٍ هي الأخطر في تاريخ لبنان الحديث، في ضوء "تراكماتٍ" أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه.

ولكن، هل من نموذجٍ آخر قدّمته الحكومة فعلاً؟ ماذا حلّ بالخطّة الإنقاذيّة التي كان يُفترض أن توضَع على الطاولة منذ اليوم الأول؟ ماذا حلّ بالتشكيلات القضائية التي أنجزها مجلس القضاء الأعلى فضاعت بين الرفوف؟ ماذا حلّ بالتعيينات المالية التي رُحّلت حياءً، بعدما كادت تطيح بالحكومة، تحت عنوان ​المحاصصة​؟

لا شكّ أنّ خصوم الحكومة ليسوا أفضل، وأنّ "استنفارهم" اليوم ليس سوى لمنع الإطاحة ببعض "الرموز" التي يرفضون أن تُمَسّ، وهو ما حصل أصلاً حتى تاريخه، ولكن لا شكّ أيضاً أنّ ممارساتهم تؤكد يوماً بعد يوم أنّ "الثورة" على الطاقم السياسيّ بأكمله، موالاةً ومعارضةً، هي حقٌّ بديهيٌّ للجميع، بمُعزَلٍ عن كلّ التفاصيل...