منذ أصبح تشكيل "جبهة" معارضة موحدة ومتماسكة من "سابع المستحيلات"، بفعل الشروط والشروط المضادة وما بينها من تعقيداتٍ تقنية وسياسية، اختار رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع "التمايز" بشكل أو بآخر عن حلفائه.

تجلى هذا "التمايز" بوضوح عندما رسم الرجل "حدوداً" واضحة لمعارضته للعهد والحكومة، فآثر الابتعاد عن الشعارات الفضفاضة، وربما "الشعبوية"، على غرار "جلد" الحكومة وإسقاطها على الفور، مفضّلاً التعامل معها "على القطعة".

يوم الأربعاء الماضي، وصل هذا "التمايز" إلى ذروته من خلال مشاركة جعجع في اللقاء الوطني المالي الذي دعا إليه رئيس الجمهورية ميشال عون، في خطوة "فاجأ" من خلالها الحلفاء قبل الخصوم، ممن سارعوا لإعلان مقاطعة اللقاء من دون أي تنسيق.

وبمعزل عما إذا كانت خطوة "الحكيم" هذه، والتي وصفها بعض خصومه بالمسؤولة، شكلت "ضربة معلم" كما يحلو للبعض توصيفها، أم أنّها كانت "تكتيكاً" معارضاً داخلياً فحسب، فإن الأكيد أن للرجل حساباته واعتباراته، غير المعزولة عن طموحاته المشروعة، ولا سيما منها تلك الرئاسية...

تسجيل نقاط!

مبدئياً، يمكن وضع خطوة رئيس حزب "القوات اللبنانية" في إطار "تسجيل النقاط" المستمرّ بينه وبين حلفائه في جبهة المعارضة المفترضة، والتي لم تبصر النور على رغم كلّ المحاولات التي بُذِلت هذا الصعيد، فضلاً عمّا قيل منذ اليوم الأول عن دفع جعجع شخصياً باتجاهها.

وعطفاً على رسالة "الامتعاض" الكامنة خلف خطوة جعجع، رسالة "عتب" قرأها البعض وراء "تفرد" جعجع بالمشاركة في لقاء بعبدا، دون سائر أطياف المعارضة، الأمر الذي دفع كثيرين إلى اتهامه بأنه "أنقذ" اللقاء الذي كاد يكون بمثابة "حكومة مصغرة"، غير مكتملة العناصر، ما اضطره إلى توضيح أن حضوره لا يعكس بأي شكل من الأشكال دعماً للعهد أو للحكومة.

ولعل "عتب" جعجع هنا يختصره غياب التنسيق بين مكوّنات المعارضة بالحد الأدنى، فتيار "المستقبل" مثلاً، الذي ذهب بعيداً في معارضة لقاء بعبدا، إلى حد ابتداع كباش سني-مسيحي على هامشه، أدخلت صلاحيات ​رئاسة الحكومة​ على خطه، على رغم مشاركته في لقاءات مماثلة في السابق، أوحى عبر أوساطه وكأنه منزعج من خطوة جعجع، مع أنه لم ينسق مع أحد مواقفه، وكأنّه حاول أن يكون "السبّاق" بالمقاطعة، لعلّه يحتكر لنفسه "المكاسب" المحتملة، إن وُجِدت، ولا سيما على المستوى الشعبيّ.

وفي حين كان لافتاً أن جعجع تعمد نفي وجود أيّ "مخالفة الدستور" في جوهر لقاء بعبدا، في رد ضمني على أطروحة "المستقبليين" التي أخذت مداها خلال اليومين الماضييْن، فإن "تسجيل النقاط" لم يغب عن رسائل "القوات" التي قرأ فيها المتابعون امتعاضاً واضحاً من "المزايدين" عليها، ممّن يعقدون الجلسات فوق وتحت الطاولة مع "​حزب الله​" في عزّ الخلاف معه، كما يُتّهَم "المستقبل"، أو لا يترددون في الانفتاح على "العهد" بعد "توريطهم" بمعارك تكاد تكون "عبثية" معه، كما فعل "الاشتراكي"، على خلفية الزيارة المفاجئة وغير المنسَّقة مسبقاً إلى بعبدا.

بين جعجع وفرنجية؟

وبعيدا عن حروب "تسجيل النقاط" بين رفاق الصف الواحد، على خط المعارضة، كان لافتاً أن موقف جعجع حصد "الإشادات" بالجملة من خصومه، وفي مقدّمهم "التيار الوطني الحر"، على رغم "البرودة" التي رُصدت بين جعجع والوزير ​جبران باسيل​، وعدم تسجيل أي "خلوة" على هامش اللقاء بين الجانبين، أو حتى بين جعجع و​الرئيس ميشال عون​، باعتبار أنّ الظرف لم يكن "ملائماً" لمثل هذه الخطوة، وفق القراءة "القواتية".

وإذا كان بعض المرحبين من "العونيين" حرص أيضاً على إفراغ خطوة جعجع الفرديّة من مضمونها، عبر نزع إيجابياتها قدر الإمكان، وبالتالي ربطها حصراً بـ"ارتباك" المعارضة، وبالتالي معركة "المزايدات" بين مكوناتها المختلفة، فإنه ليس خافياً على أحد أنّ مثل هذه الإشادة حملت بين طيّاتها انتقاداً ضمنيّاً لرئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​، وهو الحليف المفترض، أو الشريك الحكوميّ بالحدّ الأدنى.

ولعلّ تعمُّد بعض "العونيّين" الحديث عن أنّ حضور جعجع لقاء بعبدا مثّل موقف "رجل دولة" شكل بحد ذاته غمزاً من قناة فرنجيّة، كونه شكّل ردّاً ضمنيّاً على "اعتذار" فرنجية الذي وصفوه بغير اللائق، خصوصاً لجهة "السخرية" التي اعتمدها الرجل عندما برّر مقاطعته اللقاء بأنّه "محجور"، علماً أن "دعابته" انقلبت عليه سلباً برأي البعض، عندما وقع في "خطيئة" القول إن من أسباب غيابه كون رقم سيارته مفرداً، مع أنه نوع السيارات المسموح لها بالتنقل يوم الأربعاء.

وإذا كان خلاف "التياريْن"، القديم الجديد، مرشَّحاً للتفاقم أكثر خلال الأيام المقبلة، بفعل إثارة قضية ​الفيول​ المغشوش التي يقال إنها "كسرت الجرّة" نهائيّاً بين الجانبيْن، إضافة إلى "ألغام" ​التعيينات​ التي ستُطرَح عاجلاً أم آجلاً، على طاولة ​مجلس الوزراء​، فإنّ ثمّة من يرى أنّ جعجع تقدّم على فرنجية هنا حتى في الطموح الرئاسيّ، بعدما كان الأخير هو المتقدّم طيلة المرحلة الماضية، بل ثمّة من يعتبر أنّ باسيل هو "الرابح الأكبر" وسط كلّ هذه المعمعة.

"نكايات" بالجملة!

في عز الأزمات الصحية والاقتصادية والمالية التي تواجه اللبنانيين، وفي ضوء التحديات والأخطار الناجمة عنها، قد يكون الحديث عن "نكايات سياسية" من أغرب الغرائب.

لكن، واقعياً، يبدو أنّ هذه "النكايات" لا تزال تتحكم بالمشهد السياسيّ برمّته، فجعجع حضر لقاء بعبدا "نكاية" بسائر أطياف المعارضة، وفرنجية قاطعه "نكاية" بباسيل، بل إن باسيل تطوع للاعتراض على خطة حكومة، يقال إنه من يحرّكها، "نكاية" بجعجع، وحتى لا يبدو الأخير وكأنّه صاحب القراءة النقدية الوحيد.

وإلى هذه "النكايات"، "نكايات" أخرى حتى في التعامل مع "خطة الإنقاذ" التي أطلقتها الحكومة، فهناك من أيّدها لكونها تعبر من خلال ​صندوق النقد الدولي​، نكايةً بـ"حزب الله"، وهناك من رفضها بالمُطلَق ومن دون قراءتها، "نكاية" بـ"العهد" أو برئيس الحكومة.

كلّها "نكايات" لن تنقذ الوطن، وستبقي المواطن يصارع من أجل البقاء في وطنٍ تُهدَر فيه حقوقه، وتُسلَب منه إرادة العيش الحُرّة والكريمة، وتؤكد أنّ الأداء السياسيّ باقٍ على حاله، وكأنّ شيئاً لم يكن...