بين إصابات يوميّة جديدة يُمكن تعدادها على أصابع اليد الواحدة، والعودة إلى تسجيل عشرات ​الإصابات​ كلّ يوم، فرق كبير! وبين التحضير إلى إستئناف التعليم في ​المدارس​ و​الجامعات​، وإعادة فتح أغلبيّة قطاعات العمل، بما فيها ​المطاعم​، والعودة إلى حظر التجوال كليًا بين السابعة مساء والخامسة من فجر اليوم التالي، والحديث عن إحتمال الإقفال التام مُجدّدًا، فرق كبير أيضًا! وفي ظلّ هذه المُعطيات المُتناقضة، والصورة العامة غير المَفهومة، ضاع ال​لبنان​يّوّن كليًا! فاذا ما الذي سيحصل؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ قرار إعادة فتح البلاد تدريجيًا وفق خمس مراحل مُتدرّجة، والذي يقوم لبنان بتطبيقه (1)، لم يُتّخذ لأنّه جرى القضاء على وباء كورونا بشكل كامل، بل جاء في سياق قرار عالمي ضُمنيّ في هذا الصدد. بإختصار، إنّ العالم أجمع أدرك بعد مُرور أكثر من أربعة أشهر كاملة على إنطلاق هذا الوباء، أنّ المسألة ستطول، وهي قد تطول كثيرًا، ما يستوجب اللجوء إلى الخطة "باء" التي تقضي بالتعايش مع الفيروس لمنع إنهيار ​الإقتصاد​ العالمي، بعد فقدان ملايين الناس في العالم وظائفهم، الأمر الذي عرّض الأمن الإجتماعي للخطر. ويُمكن القول إنّ الدول المُتقدّمة، أخذت قرارًا بالتأقلم مع المرض، أيّ بالعودة تدريجيًا إلى الحياة خارج إجراءات الحجر والإقفال، لكن طبعًا مع إعتماد معايير حماية مُختلفة، يُمكن أن تُخفّف من وتيرة إنتشار الوباء(2)، أي عمليًا أنّ تُخفّف عدد الإصابات، وتاليًا عدد الوفيّات.

وبالتالي، لم يُسيطر العالم على إنتشار وباء كورونا بعد، حيث أنّ العدد الإجمالي للمُصابين تجاوز الأربعة ملايين شخص في العالم، وعدد الوفيّات يقترب بسرعة من عتبة ثلاثمئة ألف شخص، ولوّ أنّ مليونًا ونصف المليون شخص قد تعافوا تمامًا بعد إصاباتهم بالوباء. لكن وبما أنّ اللقاح المُنتظر لن يكون قريبًا، وبما أنّ أيّ دواء مُضاد لكورونا لم يُثبت فاعليته التامة حتى الساعة، تقرّر العودة إلى الحياة، للسماح للناس بكسب قوتهم اليومي قدر المُستطاع، مع إبقاء قرارات الإغلاق جاهزة، بحيث أنّه كلّما إرتفعت الإصابات ولم تعد المُستشفيات قادرة على التعامل مع حجم الإصابات، يتمّ تشديد إجراءات الحجر والإقفال مُجدّدًا، وكلّما خفّت الإصابات يتمّ فتح المزيد من القطاعات، وهكذا دواليك! إشارة إلى أنّ بعض دول العالم تشهد إنخفاضًا مُتزايدًا في عدد الإصابات، لكنّ دولاً أخرى تشهد تصاعدًا مُتسارعًا للإصابات-كما هي الحال في ​روسيا​ ودول ​أميركا​ الجنوبيّة على سبيل المثال لا الحصر.

لبنان والتعايش مع الوباء...

وفي لبنان، تُحاول الحُكومة تنفيذ سياسة مُشابهة، وكلّ القرارات التي إتخذت لمُعاودة الحياة الطبيعيّة تدريجيًا، جاءت بخلفيّة إقتصاديّة، بالتزامن مع تسجيل تراجع في عدد الإصابات داخل لبنان عند إتخاذ القرارات المَذكورة. لكن يبدو أنّ الأمور أخذت منحى سلبيًا خلال الأيّام القليلة الماضية، حيث أنّ عددًا كبيرًا من اللبنانيّين أساء فهم هذا التساهل، بحيث أنّ نسبة التقيّد بالإجراءات الضروريّة لتخفيف عدد الإصابات تدنّت بشكل خطير، على الرغم من أنّ ​مجلس الوزراء​ كان قد مدّد التعبئة العامة حتى 24 أيّار الحالي. من جهة أخرى، تبيّن أنّ بعض العائدين من الخارج لا يلتزمون بإجراءات العزل الإلزامي الضروريّة لمدّة أسبوعين، ما تسبّب بتسرّب حالات إصابة مُستوردة من الخارج. أكثر من ذلك، تبيّن أنّ بعض الدول الإفريقيّة تفتقر تمامًا لإحصاءات دقيقة بشأن إنتشار وباء كورونا على أراضيها، وعلى سبيل المثال تأكّدت إصابة 25 لبنانيًا بالفيروس على طائرة واحدة عادت من ​سيراليون​ الأسبوع الماضي، في الوقت الذي كانت فيه السُلطات هناك تُحصي عدد الإصابات على أراضيها بما مجموعه 225 إصابة فقط، ما يُثبت أنّ هذه الإحصاءات غير صحيحة، وأنّ الوباء مُنتشر في سيراليون بشكل كبير! والأمر نفسه تكرّر على طائرة عادت من ​نيجيريا​، ومن غيرها من الدُول الإفريقيّة أيضًا، حيث أنّ غياب الفُحوصات الواسعة، والإحصاءات الجدّية، يُعطي معلومات مُضلّلة عن واقع الوباء الفعلي.

وتبيّن أيضًا أنّ عددًا من العائدين مِمّن أظهرت فُحوصات PCR التي خضعوا لها في ​المطار​، أنّهم غير مُصابين بكورونا، تصرّفوا بلا مسؤوليّة، فلم يعزلوا أنفسهم لمدّة أسبوعين–كما طُلب منهم، وخالطوا الكثيرين، ليتبيّن بعد أيّام أنّهم يحملون العَدوى، بحيث أنّهم كانوا في الأساس يحملون نواتها أو إلتقطوها خلال رحلة العودة، ما أسفر عن إصابة عدد كبير من المقيمين(3).

وتبيّن أيضًا أنّ عددًا من المُصابين بالوباء في لبنان، ممّن لا تظهر عليهم العوارض، لا يُبلّغون عن مرضهم، بل يُحاولون إخفاء أيّ عوارض خفيفة يحملونها، ما يتسبّب في كثير من الأحيان بإصابات يمكن تفاديها! والسؤال الذي يفرض نفسه بعد هذه التطورات، ما الذي سيحصل الآن؟.

بالنسبة إلى عمليّات إعادة اللبنانيّين في الخارج، والتي كان من المُنتظر أن تتواصل المرحلة الثالثة منها بين 14 و24 أيّار الحالي، لإعادة نحو 15000 لبناني، فهي لن تُعلّق، لكن جرى إلغاء بعض الرحلات، ويُنتظر أن يتمّ إلغاء رحلات أخرى قريبًا، في حال لم يتمّ التقيّد بشرط الحُصول على نتائج سلبيّة مُسبقة ل​فيروس كورونا​ من بلد الإنطلاق، وذلك بالتزامن مع إعادة تقييم للحالات الواجب إعادتها إلى لبنان(4).

كما يُتوقّع أن ترافق رحلات العَودةإجراءات أكثر تشدًدًا، بالتزامن مع مُتابعة أكثر صرامة للعائدين، لمُراقبة مدى تقيّدهم بشروط العزل الإلزامي.وإضافة إلى قرار وزير الداخليّة ​محمد فهمي​ بحظر التجوال الليلي، سيطلب مجلس الوزراء الثلاثاء من القوى الأمنيّة التشدّد في تطبيق إجراءات التعبئة، وهو سيبحث خيار الإقفال التام مُجدّدًا ليومين في مرحلة أولى، لإجراء مسح وفُحوصات كثيفة في بعض المناطق، على أن يتمّ تجديد الإقفال لفترة أطول لاحقًا، في حال تبيّن خروج حالات الإصابة عن السيطرة خلال الساعات والأيّام المُقبلة!

وفي ما خصّ قرار العودة إلى الصفوف في المدارس والجامعات بدءًا من نهاية الشهر الحالي، والذي تعرّض بسببه وزير التربية ​طارق المجذوب​ لإنتقادات عدّة، فإنّه لا يزال ساري المَفعول حتى اللحظة، لكنّ إمكان تعديله وحتى إلغاءه كليًا، بات واردًا جدًا، وذلك تبعًا للتطوّرات التي ستحصل خلال الأيّام والأسابيع المُقبلة، وللتقييم النهائي الذي سيحصل عشيّة مواعيد مُعاودة التعليم.

وبالنسبة إلى قطاعات الترفيه والتسلية، فإنّ الحاجة لإنقاذها من الإنهيار الكامل والوشيك شيء، وتعريض لبنان لإنتشار وبائي كارثي شيء آخر. وبالتالي، إنّ الحديث عن أنّ فحص حرارة زوّار المسابح، والتعويل على الكلور في المياهللقضاء على وباء كورونا، وتطبيق بعض إجراءات التباعد، كفيل بتأمين بيئة آمنة للزوّار، غير صحيح!

يُذكر أنّه حتى الساعة لا تُوجد دراسات حاسمة بشأن إحتمال إنتقال العدوى في المياه عبر الرذاذ واللعاب وإفرازات الأنف، وإذا كان الكلور يقتل الجراثيم على أنواعها، فإنّ المُبالغة بزيادة الكميّات من شأنه أن يتسبّب بأمراض جلديّة ومعويّة خطيرة. أكثر من ذلك، لا يُمكن تجنّب ملامسة الأسطح المُختلفة، وحواف المسبح، والسلالم، ومقابض فتح الأبواب، وصنابير(حنفيّات) المياه، والكراسي والأسرّة، إلخ. من دون أن ننسى حتميّة الإختلاط المُباشر بين الزوّار، ما يعني أنّ خطر الإصابة سيكون مرتفعًا، مهما إتخذ من إجراءات، ما يستوجب السيطرة على الوباء في لبنان، قبل فتح مراكز الترفيه والمسابح، علمًا أنّ الأزمة الإقتصاديّة كفيلة وحدها بتخفيف عدد الزوّار المُحتملين بشكل كبير، كما حصل مع العدد القليل من المطاعم الذي فتح أبوابه!.

في الخلاصة، الوضع دقيق وحسّاس، وعدم أخذ بعض اللبنانيّين حجم المخاطر على محمل الجدّ، وتصرّفهم بقلّة وعي ومسؤوليّة، وحتى بقلّة أخلاق في بعض الأحيان، سيُعرّضنا جميعًا لمخاطر جسيمة، وقد يتسبّب بإغلاق كل لبنان مُجدّدًا، وكأنّ الأزمة الإقتصاديّة–الماليّة والضائقة الحاليّة لا تكفينا!.

(1) من 27 نيسان الماضي حتى 8 حزيران المُقبل، حيث تنطلق هذا الأسبوع المرحلة الثالثة من الخطة الخماسيّة.

(2) أبرزها مبدأ التباعد الإجتماعي، ومنع التجمّعات، والحدّ من الإختلاط، وإلزاميّة إرتداء الأقنعة في بعض الأماكن، وتشديد إجراءات التنظيف والتعقيم، إلخ.

(3) شخص واحد عائد من نيجيريا أصاب أكثر من عشرة أشخاص في قريته، وأحد أبناء هذه القرية عاد وأصاب ما لا يقلّ عن 13 جنديًا ضُمن قطعته العسكريّة.

(4) كانت تشمل من الأكثر أهميّة إلى الأقل أهمية: بدءًا بالحالات المرضيّة والصعبة جدًا، مُرورًا ب​الطلاب​ ومن فقد وظيفته، وُصولاً إلى العائلات والمُقيمين.