«ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن جهله، وخطاب من لا يفهم»

المتنبي

أثناء محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي أدارها الحلفاء لمحاكمة القيادات ​النازية​ بعد الحرب العالمية الثانية، انفجر «هملر» ـ نائب ​أدولف هتلر​ ـ بموجة من الضحك عند عرض خطاب زعيمه في ​ميونيخ​ قبيل اندلاع الحرب، حيث تناول «هتلر» زعماء العالم بتعابير مغرقة في الشعبية، وقدّم عرضاً هزلياً مميزاً، سخر فيه من رؤساء ​فرنسا​ و​انكلترا​ و​الولايات المتحدة​. والواقع هو أنّ استخدام التعابير المفرطة في شعبيتها، والخارجة عن المألوف في لغة التخاطب، هي من الصفات الملازمة للقائد الشعبوي والديماغوجي. لكن قمّة الديماغوجية تأتي في نطاق التضليل، وقمة التضليل تأتي عند سرد الأرقام وسرد وقائع مخضبة بالأضاليل. وعلى فكرة، فإنّه من علامات الشرير، أي الدجّال، هي قدرته على سرد الحقائق الواضحة والثابتة، يمرّر من خلالها الأكاذيب لتضليل الناس. الشعبوية هنا، حتى خلال الكلام المنمق، تأتي من خلال رموز تداعب الأحاسيس وتثير المشاعر، ولكن من دون الإفصاح عنها بشكل مباشر.

وحسب تعريف الباحث الأكاديمي الفرنسي «بيير أندريه تاغويف»، في كتابه «الوهم الشعبوي»، فإنّ القائد الشعبوي يسعى الى تسخيف النخب الاجتماعية والسياسية، ويزعم بأنّ السياسة هي مسألة سهلة ومفتوحة لتداول عموم الناس، في خطاب يستهدف الجماهير المأخوذة بظرف وحكمة وسعة معرفة وشفافية القائد. ومن الخطأ افتراض أنّ الخطاب الشعبوي يجذب فقط الفئات الشعبية، فهذه الكذبة الكبيرة قادرة على خداع الجميع خصوصاً في مراحل الأزمات، أو في فترات الشدّة. والمثال، هو ما ضمّته النازية من نِخب وعلماء ورجال أعمال. وتكون الشعبوية في قمّة فعاليتها عند خلط الحقائق بالأكاذيب وبإغداق الوعود المضخّمة على الناس (القضاء على ​الفساد​ والرخاء والبترول والمطارات والبحبوحة والنصر...). وقد تكون أكثر النتائج كارثية للمسار الشعبوي، هي في حال أقنعت معظم الشعب، مما يفتح الطريق أمام السلطة المطلقة للزعيم، ومن بعدها يبدأ المسار الانحداري، حتى بعد أن يدرك الجميع أنّهم وقعوا في الخطأ، لكن طريق الرجعة تصبح عندها مستحيلة، ولو نفسياً، لأنّها تحتاج إلى تعب وإعادة تفكير، وتحمل شماتة الشامتين. فيذهب عندها القائد وجموعه إلى منطق شمشوم بهدم الهيكل عليهم وعلى الشامتين بهم.

وتزدهر الشعبوية أيضاً على تشييع منطق الكراهية و​العنصرية​ بين المجموعات، بحيث يصبح «الغير» المسؤول الوحيد عن كل مصائب المواطنين «الشرفاء»، أي أنّ الفساد هو الآخر والشر هو الآخر، وحتى الشهيد يتمّ تشويه صورته، وحتى محاولة تدمير الشاهد على قبره. فالقائد الشعبوي، بنرجسيته الخبيثة، يتمنّى لو يستحصل على لقب شهيد، ولكن من دون أن يموت من أجل اللقب، فيخترع مثلاً أنّه شهيد اغتيال سياسي أو معنوي! ويمكن لهذه الشعبوية أن تجرّ الى حروب كارثية ومغامرات عنيفة، تنتهي عادة بمصيبة إنسانية كبرى.

فالإنجراف وراء الشعبوية هو «مرض» عابر، أو جائحة، قد يتسبّب بالأذى عند حلوله بالمجتمع، وقد تزول آثاره بعد الشفاء منه، لكن الضرّر الذي تركه قد يكون بحجم الكارثة.

لقد قدّمت العونية السياسية المثال الأوضح على هذا المسار، منذ الأيام الأولى التي دخل مؤسسها على عالم السياسة سنة 1988، مع الخطابات المغرقة في الانتصارات والمعارك الوهمية و»تكسير الرؤوس».

أظن أنّ النسخة المجدّدة للقيادة الشعبوية أتت مع ولي العهد، الذي يستعد لتسلّم دفّة القيادة، مطيحاً كالسلطان سليم العثماني، (مع أنّ السلطان سليم اللبناني أيام الرئيس ​بشارة الخوري​ قد يكون يشبهه أيضاً)، كل من يعترض طريقه للوصول الى هدفه، من أعداء، ومن أهل البيت على السواء.

كل ما سمعته من مؤيّديه المأخوذين بلغة تعداد المشاريع والوعود والتهم الموجّهة للآخرين، كان يؤكّد أن لا أحد منهم يركّز على صحة أي من الوعود الذي رماها على مسامع الناس في الماضي، ويرميها في الحاضر، وسيرميها عليهم في المستقبل. لكن المصيبة هي في أنّ من صدّقه في الماضي، ربما قد صدّقه الآن، وسيتبعه إلى المستقبل الكارثي الذي يقوده إليه.

في كلام الأمس، أعاد ​جبران باسيل​ على المسامع وعوده الفضفاضة، والأهم إشاراته المفعمة بروح الطائفية، التي هي الركن الوحيد المتبقي له لوجوده. تكلم عن الفساد بالإشارة دون أسماء، وهو يتحاشى ذكر من هم شركاؤه في الحكم اليوم. تحدث عن قوى الأمر الواقع التي تمنع التهريب من دون أن يتجرأ على تجريم من أوصله للحكم، أي «حزب الله»، مع أنّ زعيم هذا الحزب أعلن عن مسؤوليته قبل أيام. ولكن المحتوى الطائفي تمثل بتقسيم محطات ​الكهرباء​ طائفياً، ومن ثم إغراء الناس بتقسيم المطارات طائفياً، والعودة إلى منطق استرداد الحقوق في مجال ​المناصفة​ خارج نطاق ​الدستور​، أي تلك المتعلقة بالوظائف من تحت الفئة الأولى.

لكن الوهم الجديد الذي اضافه، وهو إن كان صادقاً، فهو ينمّ عن جهل كامل بطبيعة الأمور في اقتصاد السوق الذي لا يمكن حدّه اليوم بمناطق جغرافية، إلّا إذا عاد العالم بعد «الكورونا» إلى الانعزال. ولكنني أظن أنّه يعرف بطلان طرحه، وهو من قبيل محاباة شريكه في ​لبنان وسوريا​ و​إيران​. وهو بالطبع مجرد وهم آخر يضيفه الى الأساطير التي زرعها في عقول الأتباع. والأتباع لم يسألوا عن كيف ستُردم الهوة المالية، ولا كيف سيتأمّن القضاء المستقل، ولا كيف ستسترد الدولة هيبتها وكيانها من الميليشيا التي أوصلته إلى ولاية العهد!

خطاب جبران باسيل ضربٌ من التهريج السياسي، قد يدفع أحياناً الى الضحك ولكنه أيضاً يدفع الى الشفقة والأسف، على من ما زالوا يؤمنون بأنّ السلطان وولي عهده يحملان اليوم قضية تستأهل دعمهم.