لا يحتاج ال​لبنان​يون إلى وصف لطبيعة ​الأزمة​ التي تطبع يومياتهم وتقلق معيشتهم وتقضي على مستقبل وآمال أبنائهم. هم لا يريدون شرح الوقائع، ولا معرفة نوعية الخطط، ولا عمل اللجان الحكومية، ولا يهم عندهم إن شرح لهم رئيس ​الحكومة​ ​حسان دياب​ مصاعب الأزمة ومحاولات حكومته لإيجاد حلول غير مرئية حتى ​الساعة​. لا يهم ايضاً إن جال وزير في قطاعات وزارته، أو عقد وزير آخر مؤتمراً صحافياً. كلّها باتت حسابات حكومية في رصيد مصروف. يريد المواطن تأمين قوت عائلته، وهو يحسب تداعيات إنخفاض قيمة عملته الوطنية ساعة بعد ساعة. لا يهمه ايضاً اذا كان إنهيار ​الليرة اللبنانية​ هو نتيجة تراكم ​الفساد​، أو كان بسبب حصار غربي و​عقوبات​ ونتيجة سياسات الخنق والتضييق لنزع خيارات سياسية من لبنان.

بالطبع، لم يعد يهتم المواطن لكل ذلك عندما يصرف كل راتبه خلال تسوق حاجياته الغذائية. فماذا يفعل الذين يتقاضون نصف رواتبهم ومنهم الإعلاميون في معظم المؤسسات؟ وكيف سيقف أفراد و​ضباط الجيش​ و​القوى الأمنية​ لأداء مهامهم أو لصد إحتجاجات شعبية وهم يعيشون الآلام ذاتها بعدما باتت رواتبهم لا تسد متطلبات ​الحياة​؟.

لا تتحمّل الحكومة الحالية مسؤولية تراكم الفشل الذي ساهم في تعزيز وتوسيع الأزمة المعيشية. لكن اذا كانت الحكومة عاجزة عن فرض الحلول، وهي كذلك، فما حيلة المواطن؟ ما قيمة الحكومة؟ ما هو مبرر بقائها؟ لم يعد يوجد سوى تبرير واحد لا غير: عدم وجود بديل جاهز ومستعد لتولي المسؤولية الحكومية. لو كان أحد رؤساء الحكومات السابقين ​سعد الحريري​ أو ​نجيب ميقاتي​ أو ​تمام سلام​، مستعدين لترؤس حكومة وطنية، ما كانت بقيت حكومة دياب لغاية الآن. كلّ منهم أو غيرهم من المطروحين الدائمين لتأليف أي حكومة، لا يريدون أن يحملوا طابة الأزمة المشتعلة، بل هم ينتظرون لتقديم أنفسهم في حكومة خلاص مرتقبة عندما يحين أوانها. لكن لا أفق ولا تحديد لذاك الآوان: لا سيولة مالية، لا ​مساعدات​ أممية، لا إتفاقيات سياسية إقليمية، لا إهتمامات دولية. فكيف يُترجم الإنقاذ من دون ذلك؟.

يزيد من إرباكات الجسم الحكومي الحالي أن بعض وزرائه منظّرون لا فاعلون. كان الأجدى بهم ألاّ يتحولوا إلى وزراء الصورة. كان يجب أن يتفرّغوا للعمل بصمت. هم لم يدركوا أن الإطلالات الاعلامية والوعود الكلامية وكثرة اللجان الحكومية من دون ثمار تفرض المساءلة الشعبية.

فات الآوان ولم يعد ينفع أي عمل وزاري مهما علا شأنه، سوى بأن تستعيد الليرة جزءاً من مكانتها. فهل يُقدم دياب على إعلان إستقالة حكومته معتذراً من الشعب عن عدم قدرته على النجاح في مهمة صعبة؟ عندها سيحفظ له التاريخ صوابية تلك الخطوة. أمّا إذا واصلت الحكومة حياتها من دون أن تعي أن مهمتها إنتهت، فذلك يعني انها مقبلة على أحد خيارين: سقوطها عند جهوزية البديل، أو إسقاطها في الشارع إعتراضاً على سوء الأوضاع المعيشية.

لا يوحي حتى الساعة رئيس الحكومة أنه يفكّر بالإستقالة ولا بالتنحي. لا بل هو يُقدم على إتخاذ خطوات تزيد من حجم الأزمة: هو اقدم في ​الساعات​ الماضية على حصر قرارات بشخصه تتعلق بالساعات الإضافية للموظفين الذين باتوا محاصرين بقلة الرواتب وتمدد الأزمة.

كان ​مجلس الوزراء​ قرر بتاريخ 25 حزيران الماضي التعميم على الإدارات والمؤسسات العامة و​البلديات​ واتحادات البلديات بوقف ساعات التكليف بالعمل الإضافي للعاملين بكافة فئاتهم ودرجاتهم، وأولى القرار المذكور رئيس مجلس الوزراء صلاحية البت بأسماء الموظفين المستثنين من هذا التعميم، وترجم هذا القرار بتعميم حمل الرقم 22/2020 صدر عن رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 30 حزيران 2020. وفيما يبدو ان ظاهر القرار والتعميم الصادر بموجبه انما يهدفان الى ضبط الانفاق والتقشف، فإن باطن وواقع هذه الإجراءات يخفي الكثير من المغالطات القانونية و​الدستور​ية ويهدد الانتظام الإداري و سير المرافق العامة لا سيما الاستثمارية منها. فقد نصت المادة 66 من الدستور على انه: "يتولى الوزراء ادارة مصالح ​الدولة​ ويناط بهم تطبيق الأنظمة والقوانين وكل ما يتعلق بالأمور العائدة الى إدارته وبما خص به"، بينما تعطي الفقرة السابعة من المادة 64 رئيس مجلس الوزراء صلاحية متابعة أعمال الإدارات والمؤسسات العامة والتنسيق بين الوزراء واعطاء التوجيهات العامة لضمان حسن سير العمل. وبالتالي فإن العمل بالتعميم المذكور ينقل الصلاحيات المنوطة بالوزراء بموجب المادة 66 من الدستور الى رئيس الحكومة، ويعطي التبعية و​السلطة​ التسلسلية المباشرة للموظفين لرئيس الحكومة، ليتحول واقع الموظف العام من موظف في إدارة او ​وزارة​ او مؤسسة الى عامل لدى رئيس الحكومة، يحدد له دوام عمله الإضافي ويبت بأجره الإضافي ويتحكم باستقراره الوظيفي وبمصيره.

القصة هي نموذج بسيط عن إنشغال دياب ب​تفاصيل​، بينما لا يوجد ​سياسة​ حكومية واضحة تضبط سعر الليرة وتمنع انهيارها. واذا كان لبنان بحاجة الى دعم دولي، فلن يكون الدعم في ظل وجود هذه الحكومة التي ترفض العواصم القريبة والبعيدة استقبال رئيسها او التعاون معها. لذا، آن أوان ان يتولى الحكومة من يعيد الثقة الداخلية والخارجية بالبلد. باتت الناس تنادي بذلك بعدما فقدت الحكومة الحالية وهج التكنوقراط بعد فترة قليلة من تولّيها مسؤولية إدارة الأزمة. سقطت الصفة، وذهب الوهج: فلا كهرباء، ولا محروقات، ولا ليرة، ولا رواتب، ولا سياسة، ولا إستقرار، ولا معيشة. فمتى تستقيل الحكومة التي صار أمر رحيلها مخرجاً للطبقة السياسية واملاً للشعب؟.