في مثل هذه الأيام من شهر تموز عام 2006 كان رجال المقاومة في جنوب لبنان يسطرون ملاحم البطولة ويحطمون جبروت جيش الاحتلال الصهيوني ويلقنونه دروساً في القتال بكلً أنواعه، في ميادين بنت جبيل ومارون الراس وعيتا الشعب وسهل الخيام… فانهارت معنويات جنود النخبة الصهاينة الذين وجدوا أنفسهم امام قتال حقيقي أصبحوا فيه شخوصاً يصطادهم المقاومون في الليل والنهار. فيما دبابات الميركافا التي كان يحتمي فيها جنود العدو تحوّلت إلى توابيت لهم بعد أن احرقها المقاومون بصواريخ الكورنيت…

وفي مثل هذه الأيام كان يُصنع النصر في كل يوم من أيام العدوان الصهيوني الأميركي رغم الدعم والغطاء اللذين حظيا به من الحكومات الرجعية العربية التابعة، وقوى في الداخل اللبناني امتهنت التآمر مع الأعداء لطعن المقاومة في ظهرها.. كان المطلوب سحق المقاومة وإنهاء النموذج الذي جسّدته بإلحاق الهزيمة بجيش الاحتلال بإجباره على الرحيل مهزوماً ذليلاً عن معظم المناطق التي كان يحتلها في الجنوب والبقاع الغربي، بلا قيد ولا شرط او أيّ ثمن مقابل وذلك للمرة الأولى في الصراع العربي الصهيوني… لكن ميادين القتال كانت تقول انّ من كان يسحق وتدمر قوّته هو جيش العدو الذي حاول دون جدوى تبديد صورة هزيمته عام 2000 امام المقاومة فإذا به يتعرّض لهزيمة ثانية أقسى محدثة زلزالاً في قلب الكيان وجيشه الذي يشكل أساس وجوده…

نفس قوى العدوان وأدواتها تشنّ هذه الأيام عدواناً جديداً على لبنان لكن عبر وسائل الحرب الاقتصادية، بعد أن اخفقت الحرب الإرهابية الكونية بقيادة أميركا في إسقاط ظهر وحصن المقاومة، الدولة الوطنية السورية، وفشلت في القضاء على المقاومة وإخماد شعلتها، وانتصاراتها التموزية التي زلزلت كيان الاحتلال وحوّلت جيشه إلى قوة مهزومة ومردوعة.. واشنطن نقلت الحرب من الميدان الصلب إلى الميدان الناعم حسب نظرية جوزيف ناي.. والهدف طبعاً تقويض عوامل قوة المقاومة المنتصرة والمتنامية، قدرة وشعبية…

لكن المقاومة التي يتألم جمهورها من الحرب الاقتصادية نتيجة تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.. والتي عرفت كيف تهزم العدو الصهيوني وقوى الإرهاب التكفيرية، هي اليوم قرّرت خوض غمار التصدي للحرب الاقتصادية.. وتحويلها إلى فرصة لإحداث التغيير في السياسات الريعية التي تسبّبت بالأزمات المالية والاقتصادية وأوجدت الثغرات التي استغلتها الإدارة الأميركية لتسعير نار هذه الأزمات ومحاولة النيل من التفاف الناس حول مقاومتهم بتحمّلها مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشية…

مواجهة هذه الحرب ليست سهلة، وهي تحتاج إلى رؤية واستراتيجية متكاملة مرحلياً واستراتيجية لإحباط أهدافها وصناعة النصر في ميدان الحرب الاقتصادية كما صنع في ميادين مقاومة الحروب العسكرية والإرهابية.. وهذه الرؤية والاستراتيجية أعلنها قائد المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله، وعنوانها إعلان الجهاد الزراعي والصناعي، ايّ تحويل الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد إنتاجي.. أما العنوان الثاني في مواجهة الحرب الاقتصادية، فهو التوجه شرقاً لحلّ الأزمات الراهنة وإبطال النتائج السلبية التي ادى إليها الحصار الاقتصادي والمالي الأميركي.. وهذا التوجه يرتكز إلى عوامل قوة تقوم على التشابك الاقتصادي مع العراق وإيران وسورية وتلقف العروض الصينية.. بدءاً من الإسراع في توقيع عقود مقايضة المنتجات الزراعية والصناعية اللبنانية بالنفط ومشتقاته والفيول من العراق.. والاتفاق مع الشركات الصينية للبدء بتنفيذ مشاريع بناء وتأهيل البنية التحتية وانشاء معامل إنتاج الكهرباء ومعالجة النفايات إلخ… انها معركة مقاومة حرب الاستنزاف الاقتصادية الأميركية، بإيجاد بدائل تكسر الحصار وتضع حدا لهذا النزف الذي يرهق الشعب اللبناني..

إنّ إمكانية الانتصار في هذه الحرب الجديدة مرتبطة بترجمتها من الحكومة اللبنانية إلى خطوات عملية سريعة بأن تسارع إلى توقيع الاتفاقيات مع العراق والاستفادة من أيّ عروض مماثلة قد تبدي ايّ دولة عربية او إسلامية او عالمية الاستعداد لتقديمها إلى لبنان.. وفي طليعة هذه الدول التي قدمت العروض المغرية للبنان وغير المشروطة، إيران والصين..

وقد أعلن الرئيس حسان دياب عزمه على السير في هذا الاتجاه وغيره من الاتجاهات طالما انها تحقق مصلحة لبنان الاقتصادية وتساعده على حلّ أزماته.. وأبلغ ذلك للسفيرة الأميركية التي زارته مؤخراً لاحتواء تنامي الغضب ضدّ التدخلات الأميركية السافرة وتوحي بأنّ بلادها تريد مساعدة لبنان. بعد أن كانت وراء دفعه إلى الانهيار الاقتصادي وتدهور قيمة العملة الوطنية والوضع المعيشي للبنانيين…

فهل نشهد في الأيام المقبلة إنجازات في مواجهة الحرب الاقتصادية على غرار الإنجازات التي كانت تحققها المقاومة في مثل هذه الأيام خلال تصدّيها للعدوان الصهيوني في تموز عام 2006؟

هذا ما ننتظره لنسجل انتصارات جديدة لكن في ميادين مواجهة الحرب الاقتصادية وإسقاط أهدافها القاتلة للناس.. فكل الشروط متوافرة لتحقيق ذلك، لا سيما انّ المقاومة المنتصرة والمقتدرة تحمي اليوم ليس فقط ثروات لبنان النفطية والمائية من الأطماع الصهيونية، وإنما تحمي أيضاً أيّ قرارات تأخذها الحكومة في تنويع خيارات لبنان الاقتصادية وعلاقاته مع كلّ دول العالم في الشرق والغرب وفي الجنوب والشمال انطلاقاً من مصلحة لبنان وهو أمر يسهم في تحرير قرار لبنان الاقتصادي من التبعية عبر وضعه على طريق تحقيق الاستقلال الاقتصادي المرهون بالنهوض بالإنتاج الوطني والتنمية المستقلة..