منذ ثلاثة أسابيع، يسيطر مفهوم "الحياد" على أحاديث ال​لبنان​يين، أسوةً بعظات البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​، الذي تحوّل مقرّه ​الصيفي​ في ​الديمان​ إلى "محجّةٍ" للسياسيّين، من مختلف الانتماءات السياسيّة، ليدلوا بدلوهم من الملفّ المستجِدّ.

آخر هؤلاء كان رئيس "​التيار الوطني الحر​ّ" الوزير السابق ​جبران باسيل​، الذي حرص على تصنيف زيارته في خانة "تلبية دعوة" تلقّاها، والذي خرج بعد اللقاء، بموقفٍ وُصِف بـ"الوسطيّ"، خلافاً لعادة الرجل في تسمية الأشياء بمسمّياتها، أياً كان الثمن.

وإذا كان الرجل "تعمّد" مقاربة مبادرة البطريرك بإيجابيّة ظاهرة، ولو أخذها إلى نقاشٍ آخر يميّز بين "الحياد" وما سمّاه "التحييد"، فإنّ ثمّة من رأى في "الشروط" الكثيرة التي أصرّ على وجوب توافرها في "الحياد"، إفراغاً للمبادرة من مضمونها، بشكلٍ أو بآخر...

التوازن المطلوب...

لعلّها مفارقة لافتة للانتباه أن يحرص باسيل، بعد لقائه البطريرك الماروني، على الاكتفاء بموقفٍ مكتوبٍ سلفاً من مسألة "الحياد"، مع تجنّبه في الوقت نفسه الردّ على أسئلة الصحافيّين، خلافاً لعادته أيضاً، وذلك بعد "صمتٍ" نسبيّ عن الكلام منذ فتح ​النقاش​ حولها، لم يُخرَق حتى بعد زيارة الراعي إلى ​قصر بعبدا​ الأسبوع الماضي.

باختصار، يمكن تفسير ذلك بأنّ الموقف الذي تلاه باسيل كان مُعَدّاً بعناية بشكلٍ يضمن فيه "التوازن" بين الرأيين المتعارضين من القضية المثيرة للجدل، بحيث لا يطلق أيّ كلمةٍ يمكن أن تُفسَّر "سلباً" إزاء دعوة البطريرك الراعي، ومن دون أن يتبنّى مبادرة الأخير كما هي، وبالمُطلَق، ومن دون مراعاة "حساسيّات" المعترضين، أو ربما الممتعضين بصمت.

وانطلق باسيل في تعميم هذا "التوازن" من حديثه "الإيجابيّ" عن مفهوم "الحياد" بصورته العامة، واضعاً إياه، ولو تحت عنوان "التحييد"، في خانة المبادئ التي لطالما آمن بها "التيار الوطني الحر"، ولم يكتفِ برفعها شعاراً، بل طبّقها على أرض الواقع، خصوصاً في ​وزارة الخارجية​ التي استلم باسيل نفسه زمامها لسنواتٍ طويلة، وذلك وفق مبدأ "​النأي بالنفس​" عن صراعات المحاور التي لا مصلحة للبنان بالدخول في فلكها، وهو الذي يحتاج إلى "دعم" الجميع من دون استثناء.

لكن، في مقابل هذه "الإيجابية"، كانت لافتة "الشروط" التي وضعها باسيل لصرف مبادرة البطريرك الراعي على أرض الواقع، والتي لم يرَ البعض مبالغة في تصنيفها في خانة "التعجيزيّة" في مكانٍ ما، وأولها الحوار الوطنيّ الذي يقاطعه منذ فترة، للمفارقة، مؤيّدو دعوة البطريرك دون غيرهم، وليس آخرها ربط هذا "الحياد" بحلّ كلّ المسائل الخلافيّة في الداخل والخارج، بما فيها حماية لبنان من اعتداءات ​إسرائيل​ ومخاطر ​الإرهاب​، وصولاً إلى حدّ إنهاء أعباء ​النزوح​ واللجوء على الأرض اللبنانية.

"8" و"14" من جديد؟!

لعلّ باسيل أراد من "الإيجابيّة النسبيّة" في مقاربة مبادرة البطريرك الراعي، رفض "الانطباع" الذي بدأ يسود في بعض الأوساط السياسيّة من كون مسألة "الحياد" بدأت تفعل فِعلها على خطّ إعادة إحياء معسكري الثامن والرابع عشر من آذار، بشكلٍ أو بآخر، بما يذكّر بالانقسام الذي كان سائداً في زمن البطريرك الراحل ​نصر الله​ صفير، الذي حوّله "الآذاريّون" في وقتٍ من الأوقات إلى "المرجع الروحيّ" لحركتهم السياسيّة، في وجه الخصوم.

ويتعزّز هذا الانطباع في ضوء "الانكفاء" النسبيّ لأقطاب فريق الثامن من آذار في مقاربة ملفّ "الحياد"، مع تسجيل بعض الزيارات "الخجولة" إلى حدّ ما لبعض الشخصيات المحسوبة على هذا الفريق، والتي لم تتكثّف سوى في اليومين الماضين، علماً أنّ ​السفير الإيراني​ الذي كان من أوائل من زاروا الديمان "حيّد" نفسه عن المسألة باعتبارها "شأناً داخلياً"، فيما لم يُفسَّر موقف رئيس تيار "المردة" ​سليمان فرنجية​ سوى في خانة "الزكزكات" المستمرّة بينه وبين "العهد"، ممثَّلاً بخصمه الذي أضحى وحيداً على الساحة، أي باسيل.

وفي مقابل هذا "الانكفاء"، تبدو فاقعة "الحماسة المفرطة" التي يبديها المنتمون لمعسكر الرابع عشر من آذار لمبادرة البطريرك الراعي، والذين بدأوا بتصويرها وكأنّها "ثورة" على "​حزب الله​" بالتحديد، على رغم قول الراعي المتكرّر إنّ مبادرته تهدف إلى الجمع لا التفرقة، وإنّها لا تستهدف في جوهرها أحداً من مكوّنات ​المجتمع اللبناني​، علماً أن بعض الوفود "الشعبيّة" التي زارت الديمان في عطلة نهاية الأسبوع كانت أكثر "صراحةً" بالتصويب على "الحزب" وسلاحه، واعتباره الحائل الوحيد دون تطبيق "الحياد".

من هنا، أراد باسيل، الذي يحرص أصلاً على الفصل بين "الوطني الحر" و"​8 آذار​" منذ أيام "عزّ" الانقسام الشهير، أن يقول إنّ مثل هذه المقاربة غير واقعيّة، لأنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت، وإنّ المعادلة الداخلية باتت محكومة بموازين مختلفة عمّا كان سائداً سابقاً، وهو ما أوحى به بإصراره على وجوب تأمين "التوافق" لطرح "الحياد" أولاً، وهو ما تشير بعض الأوساط إلى أنّه نال "استحسان" حلفائه، وعلى رأسهم "حزب الله"، علماً أنّ باسيل تعمّد إرسال إشارات "طمأنة" للأخير، خصوصاً بحديثه عن وجوب عدم التفريط بعناصر "قوة" لبنان، والتي لا يزال الحزب يمثّل أحدها بوجه الاعتداءات والأطماع الإسرائيلية، في قاموس حلفائه على الأقلّ.

"الرسالة" الأوضح!

في المُطلَق، قد يبدو "نافراً" الربط بين رئيس "التيار الوطني الحر" ومصطلح "الوسطيّة" الذي لطالما حاربه باسيل قبل غيره، أسوةً ب​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​، الذي لطالما صوّب، منذ أيام ترؤسه تكتل "التغيير والإصلاح"، على "الرماديّين"، أو مَن لا لوْن لهم.

لكنّ "الوسطيّة" في مقاربة ملفّ محدَّد هو الحياد تبدو مختلفة في قاموس "العونيّين"، تفادياً لأيّ "إحراج" يمكن أن يشكّله أيّ موقفٍ أكثر وضوحاً، سواء مع البطريرك الماروني الذي يحرص باسيل على تحصين العلاقة معه، تفادياً لتكرار سيناريوهات سابقة، أو مع "حزب الله" الذي لم يبقَ لـ "التيار" حليفٌ ثابتٌ غيره في هذه المرحلة.

بيد أنّ "الرسالة" خلف هذا "التوازن" تبقى الأوضح، بعيداً عن الغمز والتلميح: الحياد يتطلّب توافقاً، والتوافق يتطلب حواراً، والحوار يتطلب انفتاحاً، والانفتاح لا يزال مفقوداً من قبل خصوم "العهد"، ممّن يقاطعون الدعوات الرئاسيّة للحوار، وهنا قد يكمن بيت القصيد...