كان محقاً ​قيس الخزعلي​ حين قال: "لا مشكلة مع ​المتظاهرين​ ومع مطالبهم المحقّة ولكنّ المشكلة مع طرف ثالث خفي يستغلُّ معاناة المواطنين ومطالبهم المشروعة ليخلق وضعاً من التشكيك وانعدام الثقة بين ​الدولة​ والشعب، وليوجّه عواطف ومشاعر الناس في اتجاهات لا تخدم التخفيف من معاناتهم وتزيد الإرباك وتفاقم الثغرات التي كانت السبب في الصعوبات التي يعانون منها في المقام الأول". والواقع الواضح في معظم بلدان وطننا العربي يؤكّد اليوم أنّ هذا الطرف الثالث موجود بأشكال ودرجات مختلفة، وفي مواقع متباينة في الحكم، أو في مفاصل تستهدف هذا الحكم، ويلبس هذا الطرف لبوساً مختلفاً من مكان إلى آخر، ولديه رواية مختلفة تعتمد على موقعه والأطراف الداخلية أو الخارجية التي يتعاون معها، والأهداف الوطنية التي يدّعي العمل على تحقيقها حتى وإن كانت هذه الأهداف لا تمتّ إلى مصلحة الوطن أو المواطن بصلة. وجود هذا الطرف الثالث اليوم في معظم الأقطار العربية هو ​العقبة​ الأكبر التي تقف عائقاً في سبيل وحدة البلد واستقلال قراره، كما يشكّل هذا الطرف النافذة التي تطلّ منها

القوى المعادية للبلاد وتعمل على تنفيذ مخططاتها ضدّ مصالح البلاد ولكن تحت شعارات برّاقة ومغرية لا يكشف المواطنون مفاعيلها الحقيقية السامة إلا بعد فوات الأوان.

في القراءة الدقيقة لتاريخنا، ومنذ الحرب العالمية الأولى، حين تحالف العرب مع القوى الغربية أملاً منهم في نيل استقلالهم وحصاد ثمار تضحياتهم، نتيقّن أنّ القيادات العربية تعاملت مع من يستهدفها ببساطة أميل إلى السذاجة وقلة الحنكة والإدراك لأبعاد ما يطرح عليهم في اللحظة الراهنة وتفاعلاته ​المستقبل​ية. أضف إلى ذلك وجود بعض العناصر الذين يفضّلون ​الذهب​ والفضة على مصلحة البلاد، وأطراف أخرى ترى وتدرك ولكنها تسكت عن الحقّ مدفوعة إما باليأس أو عدم المبالاة. ومن هنا فإنّ ما حلّ بأمتنا من احتلال أرض وإرادة ومخططات تمنع تقدّمها وارتقائها بين الأمم لم يكن دائماً نتاج مواهب الأعداء الفذّة أو تمويلهم السخيّ أو أسلحتهم المتطوّرة، ولكن كان في الغالب نتيجة تضافر عوامل داخلية وخارجية لم نعكف حتى اليوم على دراستها دراسة معمّقة واستخلاص العبر والدروس منها، وتقويم أساليب العمل الحالية بما يضمن الاستفادة المثلى من هذه العبر والدروس؛ فكم من حاكم عربي وعلى مدى قرن من

الزمن قد اكتشف في آخر سنوات عمره، وبعد فوات الأوان، حجم الخديعة التي تعرّض لها والتسويف الذي صدّقة وآمن به فقط ليصاب بالخذلان في الوقت الذي لم يعد لديه الوقت حتى للتعبير عمّا أصابه بدقة كي ينير به دروب الأجيال المقبلة. وكم من صاحب قرار آمن إيماناً مطلقاً بما يسوّفه له الأعداء ليكتشف بعد ذلك ألّا صداقة ولا محبة لديهم إلا لإنجاح مخططاتهم التي تهدف إلى خدمة بلدانهم على حساب شعوبنا وبلداننا. والسبب في تفاقم ظاهرة الطرف الثالث اليوم هو الإعلام المتفلّت من عقاله؛ فكلّ صاحب رأي يستطيع أن يطلّ على الآخرين من منصة إعلامية توحي بالأهمية، وتحقق نسبة عالية من التداول، مما يوهم الآخرين بأنها تعبّر عن تيار أو قوى يعتدّ بها، وفي هذا الأمر تشكيك بالمرجعية الوطنية التي لا بدّ وأن تشكّل البوصلة الوحيدة فيما يخصّ مصلحة الأوطان وسلامتها واستقلالية قرارها. أما أن تصبح العمالة والخيانة وجهة نظر، فهذه هي الكارثة التي لا يتمّ التصدي لها بالشكل المطلوب وبالقوة والجرأة والصراحة التي لا تجامل ولا تهاون أبداً لأنّ الإبقاء على قدسية وهيبة القضايا الوطنية

ضرورة من ضرورات ​سلامة​ البلدان وسلامة التحرّك السياسي والمجتمعي وصيانته من الاختراقات الخطيرة.

في كلّ مجتمع وعبر التاريخ هناك نفوس ضعيفة ترتهن للمعتدي لسبب أو لآخر سواء لإعجابها بهذا المعتدي أو لطمعها أنه في التعاون معه يكمن الخلاص، أو للفائدة المادية والمكتسبات التي يمكن أن تجنيها منه، ولكن هذه الفئة القليلة لم تكن يوماً قادرة على تغيير مجرى التاريخ لولا الأغلبية الصامتة، والتي لا تجهر برأي ولا تدافع عنه، ولا تقف بالمرصاد لتلك الفئة القليلة المعتدية، لا بل كثيرون من الأغلبية يداهنون تلك الفئة لسبب أو لآخر وبهذا يصبحون شركاء في التعطيل والتخريب، ولذلك قال الإمام علي رضي الله عنه: "الساكت عن الحقّ شيطان أخرس"، ولذلك فإنّ الموقف الجريء والكلمة الصادقة هما جهاد في سبيل الحقّ، وثوابهما كثواب المجاهد بماله أو نفسه في سبيل إعلاء كلمة الحقّ.

السؤال هو من أين تكون البداية؟ أهي من المناهج التربوية والعودة إلى التربية العقائدية التي لا تهادن ولا تساوم، أم هي في التركيز على إعادة النبض للأحزاب والمنظمات الشعبية والتخلّص

من كلّ الاختراقات المعادية، والتي بثّت الشكوك بالقيم والمبادئ والآليات التي ولا شكّ تمثّل خلاصنا، وتشكّل ركيزة لبناء مستقبل واثق ومزدهر لأجيالنا؟ لا شكّ أنّ جزءاً من الإشكالية يكمن في النظام التربوي في ​الدول العربية​؛ هذا النظام الذي تراجع في العقود الأخيرة ولا تخفى أصابع الطرف الثالث والذي أصبح لا يلبي خططاً طموحة من مراجعات جادّة واستنتاجات لا بدّ منها إذا ما توفرت الإرادة للاستفادة الحقيقية من التاريخ والعمل على تغيير مجراه، وتحويل انكسارات الماضي إلى انتصارات مستقبلية. الصدق والجرأة صفتان أساسيتان لا بدّ من توفرهما في مراجعة الأحداث الخطيرة التي أودت بالجميع إلى هنا، والخجل من الأشخاص يجب أن يتمّ استبداله بالخجل من أجيال الحاضر والمستقبل إذا ما استمرّت المسيرة على هذا النحو. قراءة تاريخنا قراءة موضوعية ومعمّقة تُري أننا لم نواجه ما مرّ بهذه الأمة من أحداث مأساوية بصراحة وصدق، بل حاول الكثيرون تبرير الانتكاسات والانكسارات وأوصلناها للأجيال دروساً غائمة وغامضة لا تساعد أبداً في خلق الشخصية الوطنية الواضحة والعازمة على شقّ الطريق الذي لا يهادن ولا يساوم. لقد برهنت انتصارات ​المقاومة​ في ​حرب 2006​ أنّ أسطورة الجيش

الإسرائيلي الذي لا يقهر قد تمّ اختلاقها ونشرها لتثبيط الهمم، وإقناع العرب ألّا حلّ لديهم سوى الاستسلام. وقد برهنت المقاومة أنّ الإيمان بالأرض والحقوق والتضحية هو الذي لا يقهر، وخلقت معادلات جديدة ما زال العدوّ محتاراً في التعامل معها، فكيف لو أنّ بعض الدول العربية وليس كلّها تمتّعوا بمثل هذه الإرادة ومثل هذا الإيمان. أحد الأهداف الأساسية للطرف الثالث هو دبّ الوهن في العزيمة، وإدخال اليأس والإحباط إلى أصحاب الحقوق، والجواب سهل وواضح وهو أن تكون الرؤية واضحة لا مكان فيها لطرف ثالث أو لاختراق أو لمهادنة على سيادة الأوطان وعزّتها، والكلّ مسؤول عن ترسيخ وتعزيز هذه المعادلة كلّ من موقعه وحسب إمكاناته.