يجب الاعتراف بأن الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ اضفت ضبابية اضافية على المشهد ال​لبنان​ي، في الوقت الذي اعتقد الجميع انها ستحمل معها نقاوة فائقة للمشهد الذي عبق بالغموض جراء الانفجار الذي حصل في ​مرفأ بيروت​ ونتائجه الكارثية. من حيث الشكل، نجح الرئيس الفرنسي في تحريك الركود اللبناني القائم منذ اشهر، وفعل في اقل من 12 ساعة، ما عجز عنه ​اللبنانيون​ منذ اكثر منذ قرابة ​السنة​، حيث وضع الجميع امام مسؤولياتهم، وحظي بموافقة وتأييد غالبية ​الشعب اللبناني​، وحمل الامل بتحسين اوضاع الناس على اكثر من صعيد.

هذا في الشكل، اما في المضمون، فهناك كلام آخر، لانه وعلى الرغم من قدرة الرئيس الفرنسي على السير بين الالغام اللبنانية، استطاع نزع قفازيه والحديث بصراحة مطلقة عن كل الامور، لكنه للاسف ووجه بقراءة متناقضة، حيث اعتبر المعارضون انه وقف في صفهم، فيما اكد الموالون انه كان الى جانبهم. وقبل الدخول في هذه الرؤية اللبنانية، لا بد من الاشارة الى ان ماكرون اعاد لبنان الى الحاضنة الفرنسية، وتحدث بلهجة "الضامن" او "​الراعي​" لهذا البلد تجاه ​العالم​، ورسّخ ولو بطريقة غير مباشرة مقولة ان لبنان هو تحت المظلة الفرنسية ومن غير المسموح لاحد ان يسرقه منها، وما جولته الميدانية على المرفأ ومنطقة الجميزة، ثم لقاءاته مع المسؤولين ورؤساء الاحزاب و​المجتمع المدني​، سوى تجسيد صارخ لهذا الامر.

بدا الرئيس الفرنسي وكأنه في "مقاطعة فرنسية" لجهة التفاعل مع الناس والاطلاع على الاعمال الميدانية، وكأنه في حملة انتخابية بين انصاره. اما حصيلة زيارته فيمكن استخلاصها في المؤتمر الصحافي الذي عقده في قصر الصنوبر، والذي يمكن تلخيصه بنظرة موضوعية عبر عدد من النقاط:

١-التعاطي مع الواقع بموضوعية، لاسيما في ما خص ​حزب الله​ لجهة التعامل معه كمكوّن موجود في ​الحياة​ السياسية بفعل ​انتخابات​ شعبية، وهو امر لا يمكن اغفاله، وتحميله المسؤولية كغيره من المكونات، لتحسين مستوى معيشة اللبنانيين.

٢-لم يحدد مهلة زمنية معيّنة لتغيير ​الحكومة​ او ​رئيس الجمهورية​ او ​المجلس النيابي​، وفي مقابل "الملاحظات القاسية" التي وجهها الى المسؤولين واعتبار انهم فقدوا ثقة الشعب، القى الكرة في ملعب الشعب نفسه الذي "وبّخه" ايضاً لعدم قدرته على تقديم خطّة ملموسة لتجسيد مطالبه بالتغيير وبدء صفحة جديدة من ​تاريخ لبنان​ وفقاً للقوانين و​الدستور​ واحترام الطرق الديمقراطية. اما القول بأنه هدّد بالعودة في اول ايلول لتغيير ​السلطة​ في حال لم تلبّ طلباته، ففيه مبالغة كبيرة، لانه بدا واضحاً ان الاساس هو تنفيذ المطلب ​القصير​ المدى القائم على اجراءات عملية لجهة وضع ​القطار​ على السكة الصحيحة في موضوع الامور الحياتية و​مكافحة الفساد​... ليس الامر بجديد، ولكن الذي طرأ هو ممارسة ضغط بنّاء بقوة اكبر وبشكل اكثر فاعلية.

٣-يدرك ماكرون جيداً ان لبنان ليس كأي بلد آخر في العالم، وان اقصى ما يرجو ​تحقيق​ه هو اعادته الى ما كان عليه قبل سنة، فالمشكلة تكمن في صلب ​المجتمع اللبناني​ وفكره وتناقضاته الغريبة، وليس من السهل تفكيكها وحلّها خلال سنوات، فهي تتطلب عقوداً من الزمن، بشهادة التجارب التارخية منذ ​الاستقلال​ وحتى اليوم.

٤-المطالبة بتحقيق دولي بالانفجار، وهو وضع عملياً بوادر هذا الامر من خلال ارسال فرق تحقيق فرنسية تساعد اللبنانيين في هذا المجال، كما انه وافق على طلب رئيس الجمهورية تزويد لبنان بصور الاقمار الصناعية لمكان الانفجار لحظة وقوعه. ووفق النظرة الفرنسية، من شأن ذلك ان يقطع الطريق امام اي تحرك دولي مستقبلي لاستغلال المسألة، على غرار ما قاله الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ حول "هجوم" تعرّض له لبنان، والذي قد يعقّد الامور بشكل كبير. ومهما كانت نتائج التحقيق، فإن معالجته دولياً تختلف كثيراً عن معالجته لبنانياً.

٥-اظهر قدرة ​فرنسا​ على التعاطي مع لبنان باستقلالية تامة عن المخططات الدولية ومنها الاميركية، وفي الوقت نفسه ابقاء المظلة الدولية فوقه لجهة الامن وعدم انتشار الفوضى التامة. وهو اجتمع، على عكس التوجهات الاميركية وحتى الاوروبية، بنائب من كتلة "حزب الله"، كما تولى مهام التحدث عن لبنان (ولم يتولّ اجراء اتصالات باسمه) في المحافل الدولية لجهة تنسيق المساعدات وايصالها الى الجهات المعنية مباشرة، وعقد مؤتمرات لمساعدته.

اختلط الامر على كثير من الناس، اذ اعتبروا ماكرون في هذا اليوم انه صاحب القرار في لبنان، ولكن للاسف، ان هذا الحماس والاندفاع استمر لساعات قليلة فقط، فيما التعاطي مع مشكلة لبنان يتغيّر بين يوم وآخر. فهل سيبقى هذا الحماس قائمأً ام انه سيخفّ كما حصل مع قادة ورؤساء آخرين على مر العقود؟.