بعد أيام على "الزلزال" الذي لم ينكب ​بيروت​ فحسب، بل هزّ ​لبنان​ بأسره، ومعه العالم أجمع، لم يستفق اللبنانيّون من "هوْل" الصدمة. ولا يبدو أصلاً أنّهم سيفعلون عمّا قريب، وهم لا يزالون يلملمون الأشلاء والأضرار، ويبكون على أنقاض وطنٍ اعتقدوا يوماً أنّه يمكن أن يحميهم.

لكلّ لبنانيّ روايته عن تلك اللحظة "المشؤومة" التي غيّرت وجه بيروت، رواياتٌ تتشابك وتتقاطع بمجملها لتعبّر عن "مأساةٍ" إنسانيّة لا حدود لها، ويعجز المرء عن وصفها، ولتؤكد أنّ ما قبل الرابع من آب ليس كما بعده، أقلّه في أذهان الناس المذهولين والمصدومين.

لكن، بعيداً عن الأبعاد الإنسانيّة المسيطرة على المشهد، تبدو الوقائع السياسيّة في وادٍ آخر، في "استنساخٍ" لتجارب سابقة، لم يتوانَ فيها البعض عن "استثمار" الدماء البريئة لتحصيل المكاسب السياسية، أو أن يلجأ البعض الآخر إلى البحث عن "مهرَبٍ" يتيح له الاحتفاظ بنقاط قوته.

صحيحٌ أنّ زيارة الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ "فرملت" إلى حدّ ما هذا الواقع، ولكن إزاء معطيات اليومين الماضيين، يصبح السؤال أكثر من مشروع، فهل من "انقلابٍ" سياسيّ يلوح في الأفق؟ وهل تستعيد البلاد مشهديّة الانقسام العموديّ المدمّر الذي خبرته لسنوات طوال؟!.

استثمار سياسيّ!

كثيرةٌ هي "الفوارق" بين ​انفجار​ ​مرفأ بيروت​ الهائل والضخم وغير المسبوق، وجريمة اغتيال رئيس ​الحكومة​ الأسبق ​رفيق الحريري​ قبل خمسة عشر عاماً، وإن أطلِق على الحادثيْن لقب "الزلزال"، وأحدث كلاهما ارتداداتٍ لا حدود لها.

من هذه "الفوارق" مثلاً أنّ اغتيال الحريري كان استهدافاً سياسياً بالدرجة الأولى، يمكن أن يحصل في أيّ مكان، بعيداً عن النوايا "الجهنّمية" الكامنة خلفه، في حين أنّ الرواية الرسمية حول انفجار المرفأ، ولو بقيت مفتوحة على العديد من الفرضيّات، تضعه في خانة "الإهمال و​الفساد​"، الذي ارتقى لمستوى "جريمة الحرب" بعدما امتزج بدماء اللبنانيين.

لكن، مع ذلك، ثمّة من وجد بين تاريخي الرابع عشر من شباط 2005 والرابع من آب 2020 "شبهاً" كبيراً، انطلاقاً من "المناخ" السياسيّ الذي أحدثته الجريمتان، أو ربما "الفرز" السياسيّ الذي يكاد يكون متطابقاً. فتماماً كما قسمت جريمة اغتيال الحريري البلاد إلى "شطرين"، قبل أن تخلق "معسكري" الثامن والرابع عشر من آذار، سارت جريمة المرفأ على الدرب نفسه، وتماماً كما وُضِع ال​تحقيق​ الدوليّ عنواناً أساسياً للتجاذب، ها هو يستعيد مفرداته بحرفيّتها من جديد اليوم.

وبين الحديث عن "استقالاتٍ" باشرها عضو "​اللقاء الديمقراطي​" النائب ​مروان حمادة​، قبل أن "يتريّث" الآخرون، ويصرفوا النظر عنها على الأرجح، وبين الخطاب السياسيّ العالي السقف الذي اعتمده كثيرون، ولا سيما من كانوا ينتمون لفريق "​14 آذار​"، مستفيدين من تموضعهم "الآنيّ" في صفوف المعارضة، بدا واضحاً أنّ "الاستثمار السياسيّ" سيّد الموقف، ولو أدّى إلى أخذ البلاد إلى "مجهولٍ" اختبروه لأكثر من عقدٍ بعد اغتيال الحريري، قبل أن "يهربوا" منه، من خلال بعض "التسويات" التي أبرِمت تحت الطاولة، وغيّرت الخريطة السياسية بالمُطلَق.

"فرملة" فرنسيّة...

لا يبدو مثل هذا الاستنتاج مُبالَغاً به، إذ إنّ من يتابع تصريحات السياسيّين منذ الليلة الأولى لـ"المجزرة" لا يمكنه إلا أن يرصد ملامح "انقلابٍ" سياسيّ في الأفق، وقد تجلّى بوضوح في الخطاب الذي لم يأخذ "استراحة"، ولو لساعات، احتراماً للدماء البريئة التي سقطت.

ثمّة من وجد في الأمر فرصةً لـ"تصفية الحسابات" مع "العهد" مثلاً، فقرّر تحميله مع الحكومة الحاليّة المسؤوليّة الكاملة عمّا حصل، ولو كان ما حصل ناتجاً عن "إهمالٍ" استمرّ لسنواتٍ، كان هو فيها جزءاً لا يتجزّأ من الحكم. وثمّة من وجدها فرصةً لاستعادة المعركة مع "​حزب الله​"، فقرّر رسم شكوكٍ حول الرواية الرسمية، متحدّثاً عن مخزن سلاحٍ للحزب تارةً، وعن دورٍ "مريبٍ" للأخير طوراً في المرفأ. وبين هذا وذاك، ثمّة بين المحسوبين على "العهد" والحكومة من لم يتردّد في اعتبار الأمر استكمالاً لـ"المؤامرة الكونيّة" عليهما، ولو بقيت حكراً على تصريحاتٍ تصرّ على "تجهيل" الفاعل.

هذا "الانقسام" بدا واضحاً أيضاً خلال زيارة الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون "التاريخية" إلى لبنان، ولا سيّما خلال اللقاء "الجامع" الذي عقد في قصر الصنوبر بينه وبين مختلف القيادات السياسيّة، حيث أدلى كلّ هؤلاء بدلوهم، بمُعزَلٍ عن الانفجار، فحضر ملفّ ​الاستراتيجية الدفاعية​ و​السلاح​، كما حضرت ​الانتخابات​ المبكرة والحكومة المستقلّة والحياديّة، إلى ​الدولة​ المدنيّة وتغيير النظام، وغيرها من العناوين "السجاليّة" التي، على أهميتها، قد لا ترقى لمستوى "الفاجعة".

بيد أنّ اللافت أنّ الرئيس الفرنسي الذي نجح في "جمع" أفرقاء كانوا حتى الأمس القريب يرفضون الدعوات الرئاسية اللبنانية للاجتماع، كان يغرّد في "منحىً" آخر، ولو أثار "تحفّظات" الكثيرين، ممّن قرأوا خلفه أبعاداً مختلفة عن الظاهر، إذ أصرّ على أنّ "الأولوية" اليوم تقضي بالذهاب إلى حكومة وحدةٍ وطنيّة، رافضاً بحسب ما تسرّب، الفصل بين موالاةٍ ومعارضةٍ، كما حاول البعض الإيحاء، خصوصاً أنّ المسؤوليّات مشتركة في نهاية المطاف، فضلاً عن كون ​الأزمة​ وطنية بامتياز، وليست حكراً على فريقٍ دون آخر.

"إجرام" وأكثر!

برأي كثيرين، يبدو أنّ السيناريو نفسه الذي تبع مشهد الرابع عشر من شباط 2005 يتكرّر اليوم، من التلويح بـ"التدويل"، إلى "الاستثمار" السياسي، بل "الاستغلال" إن جاز التعبير، وصولاً إلى الخطاب عالي السقف، والذي قد يفلت سريعاً عن السيطرة، فيؤدّي إلى ما لا تُحمَد عقباه.

ليست المشكلة في ذلك أنّ اللبنانيين سبق أن اختبروا "ويلات" هذا النموذج من الانقسام لسنواتٍ طويلة، لم يشهدوا فيها سوى "الخراب" بمعنييْه الحرفيّ والمجازيّ، ولا في أنّهم يدركون سلفاً أنّه لن يفضي في النهاية سوى لتكريس النظام السياسيّ المترنّح كما هو، من دون أيّ تغييرٍ، وفقاً لقاعدة "لا غالب ولا مغلوب" الشهيرة.

وليست المشكلة أيضاً في أنّ هذا "الاستنفار" السياسيّ، أو المُسيَّس، يأتي ليغطّي على لبّ الموضوع الذي يجب أن يبقى السائد حتى إشعارٍ آخر، وهو محاسبة المسؤولين والمتورطين من قريبٍ أو بعيدٍ، بـ"مجزرة المرفأ"، وهو ما لا يفترض أن يكون خاضعاً للنقاش، الذي لا يمهّد سوى لـ "لفلفة" بات ​اللبنانيون​ يعرفون خباياها.

لكنّ المشكلة قبل هذا وذاك، أنّ "رموز" النظام السياسيّ لم يتغيّروا، وها هم يريدون "التسلّل" من حادثٍ مأساوي غير مسبوق لتسجيل النقاط وتحقيق المكاسب، وهو ما لا ينمّ فقط عن غياب الأخلاق والضمائر، بل عن مستوى من "الإجرام" يفوق أيّ وصف...