على ما يبدو ان عودة الرئيس الفرنسي الى ​بيروت​ في أوائل أيلول فرضت نفسها بقوة على الساحة ال​لبنان​ية، بعد هز العصا امام الأقطاب اللبنانية تحت قبة قصر الصنوبر، فتسارع المعنيون بغية تذليل الصعوبات التي تواجه عملية التأليف ، وتهيئة الأجواء الهادئة، وصولاً الى حكومة يترأسها شخصية من ​المجتمع المدني​، كما اشارت الأوساط ان ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ يسير نحو هذا المضمار، وطرح اسمين تردد انهما من الجسم القضائي.

زادتّ كارثة ​مرفأ بيروت​ من معاناة اللبنانيين، إضافة إلى أزمات ​النفايات​، و​المازوت​، و​البنزين​، و​الكهرباء​، و​تلوث المياه​، وعجز ​المصارف​، وانهيار سعر ​الليرة اللبنانية​، لدرجة أصبح نصف اللبنانيين في خط ​الفقر​، ودونه، وقد اضطرت محال تجارية وخدمية وسياحية إلى الإغلاق، كما تم الاستغناء عن خدمات 400 ألف عامل، فضلاً عن أن 300 ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى.

وأتى استمرار انتفاضة 17 أتشرين الأول 2019، ليزيد الأمر سوءًا، ولعلّ أهم مطالبها تنحية الطبقة السياسية الحاكمة منذ عقود بسبب فشلها، وفسادها، والتوجه صوب عقد اجتماعي جديد يتجاوز الطائفية، ويؤسس لدولة المواطنة والمدنية، وهذا يتطلب تعديل ​الدستور​، وسن قانون انتخابي جديد على أساس ​النسبية​.

وإذا كانت مثل هذه المطالب صعبة، وبعيدة المنال، بل تكاد تكون مستحيلة، خصوصاً إعادة الاعتبار للدولة، وهيبتها التي ينبغي أن تعلو على الجميع، فإنه بعد التطورات الأخيرة و​استقالة​ ​الحكومة​ أصبحت مطروحة على بساط البحث، وإنْ لم تتحقق هذه المطالب كلها دفعة واحدة، لكنها أصبحت في برامج أوساط وقوى سياسية، وطيف واسع من اللبنانيين، وقد يمهّد ذلك لتغييرات تدرّجية، وعلى مراحل، إذْ لم يعد يحتمل استمرار الوضع على ما هو عليه.

ولا يمكن للبنان الخروج من عنق الزجاجة ووصوله إلى المعافاة الحقيقية، لاسيّما كسب ثقة ​المجتمع الدولي​ من دون إجراء إصلاحات جذرية، وجوهرية، و​محاربة الفساد​، والمفسدين، واستعادة ​الأموال المنهوبة​، والمساءلة على التقصير وسوء الإدارة، والعبث بحياة وممتلكات الناس وحقوقهم، وهو ما لمّح إليه الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​.

فأزمات لبنان كلّها هي دائماً نتيجة خليط من عوامل مركبة، داخلية وخارجية، تتحرّك معاً لتصنع أتون الحروب والصراعات المسلّحة حيناً، والتسويات السياسية حيناً أخرى.

ما احوجنا اليوم الى دولة مدنية تتخطى البعد الطائفي والمذهبي، وان مشكلة الوطن ومشكلة مستقبله هي في التركيبة السياسية التي تتولّى ترميم ​البناء​ السياسي بعد كل أزمة، والتي ترفض التخلّي عن امتيازات النطق السياسي باسم هذه الطائفة أو المذهب أو المنطقة.

الدولة المدنية​ هي اتحاد أفراد يعيشون في مجتمعٍ يخضع لمنظومةٍ من القوانين، مع وجود قضاء يُرسي مبادئ العدالة في إطار عقدٍ اجتماعي تتوافق فيه إرادات جميع أو أغلب مكوّنات وقوى المجتمع، والمدنية وهذا يتأتى من كون ​الإنسان​ كائناً مدنياً بطبعه، وبالتالي فإن القواعد التي تنظّم حياته وعلاقاته ستكون مدنية، وهو مفهوم أخذ به أرسطو وإبن سينا وإبن خلدون ومونتسكيو وغيرهم.