على وقع عودة الحديث عن "عقدٍ سياسيّ جديد" أبدى الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ "انفتاحاً" على بحثه ونقاشه، ولو اشترط "إجماعاً" حوله، جاء "سيناريو" الاستشارات النيابيّة المُلزمة، ليضع "مسماراً" جديداً في "نعش" النظام المترهّل.

في الظاهر، يبدو هذا "السيناريو" مثالياً. كيف لا، وقد أفضت الاستشارات إلى تسمية رئيس حكومة جديد، من خارج الأسماء المعروفة والتقليديّة، وبتوافقٍ واسعٍ "ذابت" معه الانقسامات السياسية، بل بـ"تزكيةٍ" واضحةٍ وصريحةٍ من نادي رؤساء الحكومات السابقين.

لكن، أبعد من هذه "المثاليّة"، ثمّة الكثير من علامات الاستفهام التي تُطرَح عن "ديمقراطيّة" النظام القائم، وعن جوهر "المؤسّسات"، بعدما اقتصر دور "ممثلي الشعب" على "البصم" على اسمٍ معظمهم لا يعرفونه، تنفيذاً لـ"تسوية" لا يقف خلفها سوى الضغط الفرنسيّ...

ما الذي تغيّر؟!

يوم سمّت قوى الأكثرية النيابية قبل أشهر حسّان دياب رئيساً للحكومة، جاء ذلك بعد أسابيع من "المماطلة" التي لم تَخلُ من "المناورات" بينها وبين رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، الذي كان يطرح الأسماء بنفسه لـ"خلافته"، قبل أن يتمّ "إحراقها" في الشارع، بدفعٍ من مناصريه قبل متظاهري المجتمع المدنيّ المعترضين على الطبقة السياسية برمّتها.

استمرّ هذا "السيناريو" مطبَّقاً بحذافيره، حتى "استسلم" الحريري، عندما أيقن أنّ تسميته تصطدم بـ"فيتو" مسيحيّ قوامه تكتّلا "​لبنان​ القوي" و"​الجمهورية القوية​"، فطلب من ​رئيس الجمهورية​ ميشال عون إرجاء ​الاستشارات النيابية​ المفترضة، قبل أن يعدّل "استراتيجيّته" بالمُطلَق، ويعلن "الاعتكاف" عن الترشّح، أو تزكية غيره.

عندما اختارت قوى الأكثرية حسّان دياب، حاولت تصويره على أنّه مرشّحٌ "توافقيّ"، وعلى أنّ الحريري، الذي سبق أن التقاه في جولة "المناورات" الطويلة، "لا يمانع" تسميته، أمرٌ لم يتردّد رئيس الحكومة السابق في "التصدّي" له، لينتقل من بوّابته إلى صفوف "المعارضة"، ولو وصفها بـ"البنّاءة"، أو ما يصطلح على تسميته لبنانياً، بـ"المعارضة على القطعة".

شارك الحريري في الاستشارات، فلم يُسمِّ أحداً، ومثله فعل نظراؤه في نادي رؤساء الحكومات السابقين، من باب "الاعتراض" على تسمية دياب، وأبعد من ذلك، "رفض" ما اعتبروه "تطبيعاً" مع "العهد"، عبر تسهيل مهمّته بتسمية شخصٍ يكون مقبولاً منهم، ومن بيئتهم وما تمثّل، لتُفتَح أبواب "جهنّم" على دياب، الذي ارتضى أن يكون مرشّح "اللون الواحد"، والتي أنهت مسيرته السياسية القصيرة، أقلّه حتى إشعارٍ آخر، بـ"خسائر" لا تُحصى، وعلى كلّ المستويات.

فتّش عن ماكرون!

اختلف الواقع اليوم. اختار الحريري، ومعه رؤساء الحكومات السابقون، والكتل المحسوبة عليهم، مرشّحاً ل​رئاسة الحكومة​، مقدّمين بذلك ما كان حتى الأمس القريب "خدمة مجانية" للعهد، يرفضون تقديمها له. لم تتأخّر قوى الأكثرية في "تلقّف" المبادرة، فتبنّت بكامل عديدها، مرشّح الأكثرية السنّية، من دون نقاش أو جدال، مستندةً إلى نظرية "القوي في طائفته".

لكن، أمام هذا الاختلاف الجذري في المقاربة، لا يجوز القول "شو عدا ما بدا"، لأنّ ما حصل له مبرّراته الكامنة في "الضغط الفرنسيّ" أولاً وأخيراً، لدرجة أنّ الاسم الذي "هبط بالمِظلّة" يوم الأحد، كما يُقال، وعشيّة وصول الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ إلى لبنان، جاء بعد قيادة الأخير، "عن بُعد"، المشاورات المُفضية إلى تسمية رئيسٍ جديدٍ للحكومة، استكمالاً لزيارته "التاريخيّة" الأولى بعيد ​انفجار​ الرابع من آب، وانسجاماً مع تصريحاته المستمرّة عن رفضه "التخلّي" عن لبنان.

ولعلّ "المفارقة" الأكثر إثارة للجدل، أنّ "مرونة" الحريري في التسمية لم تُرصَد إلا بعد "تسريبات" نُسبت إلى مصدر رئاسيّ فرنسيّ قال بصراحةٍ وشفافيّة إنّ ماكرون طلب من الحريري "تحديد" مرشحه لرئاسة الحكومة، باعتبار أنّ الأخير "يجب" أن يحظى بتأييده، وذلك بعد سلسلة تسريباتٍ أخرى، لم ينفِها أو ينكرها أحد، عن دخول ماكرون، من خلال اتصالاتٍ دوريّة بالقيادات اللبنانية المعنيّة، بلعبة الأسماء وما هو أبعد منها.

فعل "الضغط الفرنسي" فِعله، فوُلِد رئيس حكومة "توافقيّ"، لم يكن معظم من سمّوه يدركون من يكون قبل ساعاتٍ من الاستشارات النيابية، ولا هم يعرفون خطّه السياسيّ الذي حاول البعض العودة إلى "أرشيفه الشخصيّ" لعلّه يحصل على "ملامح" عنه، لكنّهم سمّوه رغم ذلك، تنفيذاً لـ"الأوامر العُليا". قد يكون ذلك في الصالح العام، وقد تكون فعلاً "الفرصة الأخيرة" كما أوحى كثيرون، ولكنّ الأكيد أنّ شيئاً من ذلك ما كان ليحصل لو لم يتدخّل الرئيس الفرنسيّ، بما لديه من "مَوْنة" على الأفرقاء، الذين يتصرّف بعضهم وكأنّنا لا نزال في زمن الانتداب، أو لنَقُل، الوصاية، ولو اختلفت أوجهها.

حين "تعرّى" النظام!

تبدو "سُرياليّة" التسريبات التي تتحدّث عن "كيفيّة" وصول ​مصطفى أديب​ إلى "جنّة" رئاسة الحكومة، إن جاز التعبير، خصوصاً بعد تجربة حسّان دياب المَريرة.

سواء صحّ أنّ إيمانويل ماكرون هو الذي اختار أديب، وأبلغ الأفرقاء اللبنانيين بالاسم، طالباً منهم دعمه، وكان له ما أراد، أو أنّه حصل على "لائحة" أسماء من الحريري، على طريقة الـ Nominees، وأنّ ​الرئيس ميشال عون​ اختار أحدهم، فالأمر سيّان، ويدلّ على "انفصام" فكرة "السيادة" التي يتحصّن خلفها اللبنانيّون.

وأبعد من التدخّل الفرنسي ودلالاته، هناك من يسأل عن "صلاحيّة" نادي رؤساء الحكومات السابقين بـ"تزكية" مرشحٍ محدّدٍ، بل "إعلان اسم رئيس الحكومة المكلّف"، كما جاء على لسان أحد أعضائه، ​فؤاد السنيورة​، السبت، في "مصادرةٍ" لدور النواب المخوَّلين باختيار من يريدون لرئاسة الحكومة، وبمُعزَلٍ عن كلّ شيء.

قد تكون الإجابة أسهل ممّا يخال كثيرون، وهي ببساطة، "هذا لبنان، وهذا النظام في لبنان"، نظامٌ جعل العُرف الطائفيّ "متفوّقاً" على ما عداه. ما يحصل على مستوى رئاسة الحكومة ليس "الاستثناء"، فهو حصل سابقاً في رئاستي الجمهوية و​مجلس النواب​، حيث كانت "الكلمة الفصل" للطوائف، ولم يفعل النواب سوى "البصم".

"تعرّى" النظام الطائفيّ بالكامل، صحيح. لكنّ الأصحّ أنّ كلّ ذلك يحصل برضى، بل "مباركة"، أركان الطبقة السياسية بالكامل، بفاسديها المعروفين، كما "مُصلحيها" المُفترضين، والذين باتوا "شركاء" على أرض الواقع، رغم كلّ خلافاتهم الهامشية، والتفصيليّة...