ليس من عادتي، وليس من الانصاف بشكل عام، انتقاد شخصية ستتولى منصباً رسمياً، قبل ان تبدأ العمل الفعلي، ومعرفة حسناتها من سيئاتها في ادارة الشؤون العامة والتعاطي مع المشاكل. لذلك، من المبكر جداً الاشادة برئيس الحكومة المكلف ​مصطفى اديب​، او انتقاده، لانه يجب ​تشكيل الحكومة​ اولاً وان تبدأ عملها لاشهر قليلة ثانياً. وقبل ذلك، ستكون الاشادة مصطنعة ويحكمها التزلف، اما الانتقاد فسيكون مجحفاً وظالماً ايضاً لعدم افساح المجال امام بداية العمل الملموس والذي قد ينجح او يفشل.

هذا في المضمون، ولكن في الشكل، هناك حديث آخر. لن اعيد ما سبق وذكره الكثير من الزملاء الصحافيين وحتى بعض السياسيين، من ان الطريقة التي اوصلت اديب الى هذه المسؤولية يشوبها الكثير من التدخلات الخارجية التي كان من المفترض ان نتخلص منها بعد ​الطائف​ كمرحلة اولى، وبعد الانسحاب السوري من ​لبنان​ مرحلة ثانية، ولكن للاسف، لا يبدو ان هذا الحلم قد تحقق. وفي حين لا يمكن توجيه اللوم الكبير للخارج على تدخلاته، فإن الامر لا ينطبق على اللاعبين المحليين الذين يتولون بسرور مسؤولية تنفيذ كل السيناريوهات الموضوعة لتأمين المخرج الملائم للطروحات الخارجية. وفي هذا السياق، تعصف الاسئلة من كل ميل وصوب، ولا تجد اجوبة شافية لها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كيفية اتفاق التيارات والاحزاب و​الكتل النيابية​ على اسم واحد. فالامر مطلوب وواجب في كل الاحوال، ولكن السر يكمن في معرفة تغيّر المواقف والآراء بين ليلة وضحاها، والانتقال السياسي من وضع الذئب الى وضع النعجة مع كل ما يعينه ذلك من اطاحة بقيم ومبادئ واسس نادى بها رؤساء احزاب وتيارات في الصباح واطاحوا بها في المساء، كما نقلوا مؤيديهم ومحبيهم من ضفة الى اخرى دون تبرير او شرح.

واللوم الاكبر على "​الثورة​ وروادها"، اين هي مما يحصل؟ ما الذي تغيّر بين ​حسان دياب​ ومصطفى اديب سوى عدم موافقة شريحة من السياسيين على الاول، وتأييدها للثاني؟ (لا تصح المقارنة من ناحية العمل بعد لان اديب لم يستلم مهام ​رئاسة الحكومة​ ​الجديدة​ ولم يشكلها حتى، وليس دفاعاً عن دياب الذي لم ينجح في اغتنام الفرص التي لاحت له لتثبيت اقدامه وتقديم شيء ما للمواطن وللبنان). منذ اكثر من ثمانية اشهر، قامت الدينا ولم تقعد عند اعلان اسم دياب، فيما ساد الهدوء التام مع اعلان اسم اديب، وكافح الاول لاثبات غطائه الديني السنّي، فيما لم يجتهد الثاني لتقديم أوراق اعتماده لطائفته. عندما عاد السياسيون الى الحلبة، امسكوا بزمام الامور، وعندما كانوا خارجها (صورياً)، كانت الفوضى سائدة، بما يعني ان الوضع لم يتغيّر وانه عاد الى ما كان عليه سابقاً، وهذه المرة بصكّ براءة دولي موقّع من ​فرنسا​ بالذات التي ضمنت حشد موافقة الدول الكبرى. وللصدفة ايضاً، في اليوم نفسه على التكليف، فتحت ابواب معظم المسؤولين السياسيين امام اديب ومنها ابواب نادي "رؤساء الحكومة السابقين" و"عرّابهم" ​فؤاد السنيورة​ الذي كان اشترط عند الحديث عن تعيين دياب ان يكون رئيس الحكومة يتمتع بخبرة في هذا المجال لسنوات قبل الوصول الى هذا المنصب (وزارية او نيابية)، فيما تناسى هذا الشرط هذه المرة وكأن هذا الشرط فصلي او مرحلي.

وبعد التكليف، سيتم التأليف وهنا يدخل الشيطان في التفاصيل، لان ما من احد يمكنه اقناع اللبنانيين (غير الحزبيين) ان الحكومة لن تكون مسيّسة، فالقول بأنها ستضم اناساً اختصاصيين غير متحزبين او متعاطفين مع الاحزاب، هو ذر للرماد في العيون، اذ لا يمكن تصديق هذا الامر فيما رئيس الحكومة نفسه محسوب على خط سياسي (وهي ليست تهمة)، وكيف نصدّق موافقة الزعماء ورؤساء الاحزاب بالتخلي عن مكاسبهم ونفوذهم في وقت عادوا به الى مقاعدهم سالمين معززين؟ ليست المشكلة في اسم رئيس الحكومة المكلف، بل في العقلية السائدة التي عادت الى قواعدها وفرضت نفسها بقوة، والتي ستشهد كما في كل مرة، صراعاً على المقاعد والمكاسب والحصص. وكي لا ننسى احداً، فلا يمكن تبرئة القوى التي لم تسمّ اديب، لانها بكل بساطة لم تقتنع بالحصص التي ستعطى لها، فقررت ان تلعب دور "البطل" والتضحية بالمقاعد الوزارية، علّها تعوّض عبر كسب بعض الشعبية.

مع التأكيد مجدداً انه في حال لم تسر الرياح بما تشتهي سفن اديب ومؤيديه، فإن ​سفينة​ ​الحريري​ جاهزة وحاضرة في المرفأ، وما عليها سوى الحصول على ​الضوء​ الاخضر لتعود الى البحر بالسرعة اللازمة.

انه قطار التسوية، انه زمن عودة السياسيين، انه اعلان تلاشي "الثورة".