طغت التطوّرات في الملف الحُكومي، لا سيّما طرح رئيس الحكومة السابق النائب سعد الحريري أن تكون وزارة المال من حصّة الطائفة الشيعية، وما تلا ذلك من نقاشات، على إنفجار ​عين قانا​ الذي تراجع الإهتمام الإعلامي به، على الرغم من عدم كشف أيّ طرف لحقيقة ما حصل. فالبيان الرسمي الوحيد، والذي صدر عن ​قيادة الجيش​، جاء مُقتتضبًا وإكتفى بالإشارة إلى أنّ التحقيقات قائمة لمعرفة أسباب الإنفجار، بينما "​حزب الله​" المَعني مُباشرة بالحادث، لم يُصدر أيّ بيان عن الحادث، الأمر الذي تسبّب بتكاثر الإشاعات والروايات المُتضاربة. فما الذي حصل فعلاً في عين قانا الثلاثاء الماضي؟.

بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ أيّ وسيلة إعلاميّة لم تتمكّن من الوُصول إلى موقع الإنفجار بسبب الطوق الأمني الذي فرضته عناصر حزبيّة في المكان، والأفلام المُصوّرة المَعدودة التي سُرّبت عن الحادث، إلتقطت من قبل بعض السُكّان المحلّيّين وبواسطة كاميرات هواتفهم المَحمولة، وذلك بُعيد حُصول الإنفجار بقليل. والرواية التي حاول الإعلام المُناهض لمحور "حزب الله" ترويجها، تحدّثت عن إنفجار مخزن ذخائر تابع للحزب، في حين حاول الإعلام القريب من هذا الأخير الترويج لرواية أخرى، لجهة إنفجار محطّة وُقود في المكان، ثم ما لبس أن إعتمد رواية ثانية بعد سُقوط الأولى، تتحدّث عن إنفجار ذخائر وقذائف وألغام من مُخلّفات الحروب مع ​إسرائيل​ كان يجري جمعها دوريًا في المكان، عازيًا السبب إلى خطأ فنّي، وليس إلى أيّ إعتداء إسرائيليّ، ونافيًا في الوقت عينه إغتيال أيّ مسؤول حزبيّ. والتضارب في المواقف طال مسألة تحليق الطيران الحربي الإسرائيلي ومُسيّراته في المنطقة، حيث تحدّثت الوكالة الوطنيّة للإعلام عن تحليق كثيف في سماء المنطقة منذ صباح يوم الإنفجار، بينما نفى شُهود عيّان في المكان-وهم من مُناصري "الحزب"، حُصول أيّ تحليق! وطالما أنّ الحقيقة الحاسمة لم تُكشف، يُمكن التكهّن بما حصل عن طريق إسقاط الإحتمالات الواحدة تلو الأخرى.

أوّلاً: بالنسبة إلى نظريّة إنفجار مُخلّفات حربيّة من أكثر من عدوان إسرائيلي سابق على ​لبنان​، من المَعروف عسكريًا أنّه مَمنوع تخزين أيّ لغم أو قذيفة أو صاروخ غير مُنفجر يتمّ إيجاده بعد إنتهاء مُطلق أيّ مُواجهة، لأنّ هذه المُخلّفات تكون عرضة للإنفجار في أيّ وقت، وإعادة تخزينها يُشكّل خطرًا كبيرًا. وبالتالي، الجُيوش المُحترفة تقوم عادة وبشكل شبه فوريّ، بنقل هذه المُخلّفات إلى حُقول بعيدة لتفجيرها. ولا يُعقل أن يكون "حزب الله" غير مُدرك لهذه الحقيقة الثابتة في العلم العسكري!.

ثانيًا: بالنسبة إلى نظريّة إنفجار مخزن ذخيرة للحزب، فإنّها غير مُدعّمة بالوقائع أيضًا، لأنّه في حال تفجّر أي مخزن للذخائر، تُسمع في المكان سلسلة إنفجارات مُتوالية، ويترافق هذا الأمر في كثير من الأحيان مع تطاير قذائف أو صواريخ بشكل عشوائي لتنفجر في أماكن قريبة من مركز مخزن الذخائر المُفترض. وهذا الأمر لم يحصل في إنفجار عين قانا، حيث تضاربت الأنباء بين من تحدّث عن إنفجار وحيد سُمع في المكان، ومن تحدّث عن سماعه لإنفجارين، من دون تسجيل تطاير أي قذائف أو صواريخ في المنطقة المُحيطة.

ثالثًا: إنّ الأضرار التي نجمت من إنفجار عين قانا (أو الإنفجارين المُتواليين–لا يُمكن الجزم بذلك)، لم تكن مَحدودة ولا جسيمة، بل مُتوسّطة. فالمبنى السكني الذي وقع فيه الإنفجار سُوّي بالأرض تمامًا، علمًا أنّه كان يتكوّن من طابقين، مع تسجيل أضرار جزئيّة طالت عددًا من المباني والمنازل والسيارات في محيط موقع الإنفجار. وكشفت صُور الدمار الذي تسبّب به الإنفجار الذي هزّ أجواء ​إقليم التفاح​، بالتزامن مع إنبعاث الدُخان الأسود الكثيف في الأجواء، عن قبو كبير أسفل المبنى المُدمّر، يقع عمليًا تحت مُستوى الأرض من دون أن يُعرف ما كان بداخله. وبالتالي، إنّ الإنفجار كان قويًا لدرجة إنهيار المبنى الذي وقع فيه، لكنّه لم يكن قويًا إلى درجة إنهيار المباني المُحيطة، بل تضرّرها بشكل جزئي فقط.

رابعًا: لا يُمكن على الإطلاق الجزم ما إذا كان ما حصَل ناجم عن إعتداء إسرائيلي جديد، أو عن تفجير إستهدف المبنى، أو عن خطأ تقني، علمًا أنّ "الحزب" أصرّ على نظريّة خُلوّ المبنى من أي شخص، وعلى عدم وُقوع أيّ إصابات تُذكر، علمًا أنّ الأخطاء التقنيّة تستوجب عادة إقتراف أحد ما لهذا الخطأ، وعلمًا أنّ إبقاء ذخائر-ولوّ من مُخلّفات الحرب، من دون أيّ حراسة، أمر شديد الإستغراب أيضًا!.

خامسًا: كان لافتًا أن أحد الصحافيّين الإسرائيليّين قد كتب في السابع من آب الماضي، تغريدة مُوثّقة ومحفوظة في أرشيف مواقع التواصل الإجتماعي، ومَدعومة بصورة جويّة للحيّ الذي وقع فيه الإنفجار في عين قانا، زعم فيها أنّ المكان المُشار إليه في الصُورة التي نشرها، يُستخدم من قبل عناصر ينتمون إلى "وحدة الهندسة" في "حزب الله" لتصنيع عُبوات ناسفة، مُتهمًا هؤلاء بتخزين مواد مُتفجّرة(1) قُرب منازل المدنيّين الآمنين كما قال، الأمر الذي فتح باب التكهّنات ما إذا كان "الحزب" قد باشر بإخلاء الموقع من الموجودات التي بداخله بعد إنكشافه إستخباريًا، وأنّ خطأ ما قد وقع خلال عملية النقل.

في الخُلاصة، الأكيد أنّ الحقيقة بشأن إنفجار عين قانا لم تُكشَف بعد، وهي قد لا تُكشف أبدًا! لكنّ الأكيد أيضًا أنّ المعارك الإستخباريّة بين إسرائيل و"حزب الله" مَفتوحة على مصراعيها، وهي لا تزال اليوم مَضبوطة تحت سقف مُعيّن، لكن لا يُعرف كيف ستكون عليه الأمور في المُستقبل.

(1) مثل TNT و C4 و RDX.