أضاء الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (١٩٠٥-١٩٨٠م) في مسرحيّته الشهيرة الأبواب المغلقة Huis clos، بشكل رمزي على موضوع الوجوديّة L'existentialisme، وهو تيّار فلسفي – أدبي يعتبر أن كلّ فرد كائن فريد وسيّد أعماله التي مِن خلالها يحدّد مصيره، وبالتالي هو مسؤول عن القيم التي يختارها ويتبنّاها.

صحيح أن سارتر يصنّف فيلسوفًا ملحدًا، إلّا إننا نقول إن لا وجود للإلحاد في حقيقة الواقع، بل لا أدريّة، agnôsis، بمعنى هناك مَن يعتقد أنّه لا يمكن إدراك حقيقة وجود الله.

يصف هذا الفيلسوف كيف أن ​الإنسان​ سار بقدميه إلى جهنّم، ورسم قدره بتصرفّاته اللا بشريّة وعديمة الرحمة.

فعبارة سارتر المشهورة L’ENFER, C’EST LES AUTRES" جهنّم، هي الآخرون" تأتي مِن مشهد حواري يدور بين ثلاثة أشخاص، امرأتين ورجل وصلوا إلى جهنم، وقد حاولوا أن يفهموا ما الذي أوصلهم إلى هناك، وماذا سيكون عقابهم.

وسرعان ما يدركون أن لا وجود لجلّاد أو معذّب، بل كل إثنين منهم هما جلّادان الثالث. ويكون عقابهم بالتالي أن يعيشوا أبديًّا معًا، ويجلد بعضهم بعضًا، ويكره بعضهم بعضًا إلى ما لا نهاية. وهكذا أسدل سارتر الستار على عذاب أبديّ لا حل له.

إذ يقول أحدهم للشخصين الآخرين: "كل هذه النظرات التي تنهشني... آه، أنتما فقط اثنان؟ كنت أعتقد أنّكما كثر. إذًا، هذا هو جهنّم. لم أتصوّر يومًا أن الأمر هكذا". ويكمل حديثه: "هل تذكران الكبريت، المحرقة، الشوّاية ... آه! يا لها مِن سخرية. لا حاجة للشواء: الجحيم هو الناس الآخرون".

ما الحل إذًا؟.

يسوع يعطينا الجواب: "كَمَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ هكَذَا"(لوقا ٣١:٦).

هل مِن أحد يرضى بالظلم لنفسه؟ طبعًا لا. وهل مَن يمقت المحبّة؟ طبعًا لا.

إذًا، فلنحب بعضنا بعضًا كما أحبّنا الربّ. ولا طريق آخر مهما بحثنا وبحث ​العالم​ بأسره. وهذه كانت وصيّته لنا(يوحنا ٣٢:١٣).

ل​تحقيق​ ذلك يجب على كل واحد منّا أن يدرك أمرًا ثلاثيًّا لا يتجزّأ البتّة وهو: الله، والآخر والشخص ذاته.

فمِن جِهة الله، هو خلقنا لنتقدّس ونصبح أبناء الملكوت. وعندما سقطنا أتى إلينا متجسّدًا وصُلِبَ وفدانا وأقامنا مِن بين الأموات، وأرسل لنا الروح ​القدس​. فمحبّة الله لنا لامتناهيّة.

أمّا مِن جهّة الآخر فمَن هو؟ هو أنا، والعكس صحيح.

فبالعودة إلى مسرحية سارتر، هناك وجه منظور يمثّل الأعمال القبيحة التي ارتكبها كلّ مِن الأشخاص الثلاثة تجاه الاخريَن، وهم بالتالي فعلوها تجاه أنفسهم، لأنّ كما الخير يفيد فاعله، كذلك الشر يرتّد على صانعه.

والوجه غير المنظور هو ما لم يفعله كل واحد مِن أشخاص المسرحيّة مِن أعمال محبّة ورحمة وتعاضد ومسامحة ونيّة صافية واحتضان وغيرة حسنة.

وفي المسيحيّة نحن نقول، الآخر هو المسيح، وهو وكل واحد منّا. فالاعتراف بالآخر Autrui إزالة لكل أنانيّة، وهو جهاد ضد ما يسمّى Le Solipsisme وLe moi أي كل ما يدور حول الأنا القاتلة والكارهة كما قال باسكال. فتصبح المعادلة Le Pour-Soi تساوي Le Pour-Autrui.

وبمجرّد النظر إلى الكامل الذي هو يسوع ندرك ضعفنا، عندها فقط، نعتبر ضعف الآخرين لا يختلف عن ضعفنا نحن، بل هو مختلف بالشكل فقط، وكلّنا نخطئ ونحتاج مجد الله.

فإذا مثلًا شعرنا بنظرة احتقار مِن شخص آخر تجاهنا، يكون في الواقع يحتقر نفسه دون أن يدري. وإذا عيّرنا لنقص ما، يكون يعيّر نفسه لنقص فيه.

ويسأل سارتر في كتابه (الوجود والعدم L’Etre et le Néant ) هل أستطيع أن أحيا مِن دون الآخر؟ وما هي طبيعة العلاقة مع هذا الآخر؟ كما يطرح معضلة العلاقة بين البشر قائلًا: إنّها ليست تعاضدًا بل صراعات.

يجيب الكتاب المقدّس عن كلّ هذه التساؤلات بوضوح تام، فيقول: عندما خلق الله آدم نظر إليه وقال: "لَيْسَ جَيِّدًا أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِينًا نَظِيرَهُ"(تكوين ٢:١٨). وخَلق حواء مِن ضلع آدم. وهكذا تسلسلت البشريّة كأنّها تولد مِن ضلع بعضِها البعض.

فهذا الفيلسوف الملحد ناشد الله مِن دون أنْ يدري، إذ أجاب أيضًا: طبيعة جسدي تأخذني لوجود الآخر ولوجودي الذاتيّ مِن أجل الاخر. وأكتشف مع الآخر عالمًا آخر مِن الوجود يوازي وجودي في الأهميّة، وأدعوه الوجود مِن أجل الآخر. ولكنّه عاد ووقع في تضاد دفاع الإنسان عن وجوده ككيان وتصدّيه للآخر. فلا إجابات قاطعة قدّمها إذ لا حقيقة كاملة خارج الله.

كذلك شرح هيغل الفيلسوف الإلماني (١٨٣٥- ١٩٠٥م) ان تأكيد الوعي الذاتي ممكن فقط مِن خلال الاعتراف بوجود الآخر، وقد سبقهم أرسطو إلى ذلك (القرن الثالث قبل ​الميلاد​) عندما قال: الكائن البشريّ بحاجة للآخر ليعرف نفسه. فالفلسفة تجمع بأن معرفة الآخر تمر أوّلًا بمعرفة الذات.

كل ذلك يشير إلى أن الإنسان، أدرك أم لم يدرك، هو في بحث دائم، عن الآخر وعن الخالق، والبشريّة (الآخر وأنا) لا يمكن أن ترتاح إلّا في الخالق، أي في الربّ ​يسوع المسيح​ الذي قال: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ"(يو ٢٧:١٤).

وفي الختام سأتوقّف عند جملة قالها الأديب الفرنسي Baudelaire "الآخر هو قريب وبعيد في الوقت نفسه"، فتجيب المسيحيّة وتقول، الوجه البشريّ فينا مدعو لملاقاة الوجه الإلهيّ في داخلنا وفي الآخرين أيضًا، وبقدر ما نقترب جميعنا مِن الله تقرب المسافات بين البشر. ألا حاولنا؟.