قبل أقلّ من أسبوعين، وغداة "اعتذار" السفير ​مصطفى أديب​ عن تأليف الحكومة نتيجة الضغوط التي تعرّض لها، أصدر المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ بياناً أعلن فيه بصريح العبارة أنّه "غير مرشّح لتولي تشكيل الحكومة الجديدة".

يومها، تعمّد المكتب الإعلامي للحريري الإيحاء بأنّ هذا الموقف جاء "عطفاً على ما يتمّ تداوله إعلامياً"، لدحض أيّ صلةٍ لرئيس الحكومة السابق بكلّ ما يُحكى في الكواليس والصالونات السياسيّة عن "رغبةٍ دفينةٍ" لديه بـ"اقتناص الفرصة" للعودة إلى السراي الحكوميّ.

على مدى أسبوعين، تولّت الماكينة الإعلامية للحريري، عبر التسريبات والمصادر المحسوبة عليه، التأكيد على هذا الموقف، حتى أنّ بعض المحسوبين على الرجل كانوا قبل ساعاتٍ قليلةٍ من إطلالته المتلفزة يؤكدون "عدم حماسته" للعودة في هذه المرحلة.

فجأةً، تغيّر كلّ شيء، فأصبح الحريري "مرشحاً حكماً"، بل "المرشح الطبيعي" لرئاسة الحكومة، "وبلا جميلة حدا"، كما أعلن بلسانه، ما طرح تساؤلاتٍ بالجملة، عن ماهية "التغيير" الذي أدخِل إلى المعادلة، و"الضمانات" التي قد يكون "الشيخ سعد" تلقّاها قبل إعلان مثل هذا "التحوّل النوعيّ"...

نطق بالحقيقة!

في المبدأ، لا يفترض أن يشكّل إعلان الحريري صراحةً أنّه "مرشح طبيعي" لرئاسة الحكومة مفاجأةً لأحد، حتى لو جاء "متناقضاً" بالمُطلَق، مع كلّ ما كان يضخّه عبر مكتبه الإعلاميّ من إشاراتٍ معاكسة لذلك، ولا سيما لجهة تكراره "معزوفة" أنّه ليس مرشّحاً لرئاسة الحكومة، وأنّه لا يريد العودة إلى السراي، وما شابه ذلك.

يرى كثيرون أنّ الحريري "نطق" أخيراً بالحقيقة التي كان "يختبئ" خلفها طيلة الفترة الماضية، وتحديداً منذ استقالته على وقع "الانتفاضة الشعبيّة" التي اندلعت في السابع عشر من تشرين الأول الماضي، بعيداً عن "التعفّف" المُبالَغ به في أفضل الأحوال، و"المزيَّف" في كثيرٍ من جوانبه، إن جاز التعبير، باعتبار أنّ "عينه" كانت دائماً "مشدودة" نحو السراي، منذ عام وحتى اليوم.

ويذهب أصحاب هذا الرأي، وبعضهم من مؤيّدي الحريري سياسياً أو من محبّذي عودته عملاً بمقولة "الأصيل أفضل من الوكيل"، أنّ رئيس الحكومة السابق لم يُخفِ يوماً رغبته بالعودة، وفق شروطه، حتى أنّه حين كان "يتجاوب" مع مطالب "التسهيل" عبر تسمية "وكلاء" له، كان يفعل ذلك بنيّة "إحراق" منافسيه المحتمَلين، لا "تعبيد الطريق" أمامهم، وهو ما تكرّر مع أكثر من اسم بعيد "الانتفاضة الشعبية"، وقبل تسمية حسّان دياب رئيساً للحكومة.

ولا يستبعد البعض أن تكون تسمية مصطفى أديب نفسه جزءاً من هذا "التكتيك"، خصوصاً بعدما تحكّم الحريري بالشاردة والواردة في عملية تأليف حكومته، واضعاً "العصيّ في دواليبها"، حتى عبر "مبادرته" الشهيرة، قبل أن يدفع الرجل بشكلٍ أو بآخر إلى "الاعتذار"، وفي قرارة نفسه، أن تكون "تجربته" كفيلة بتحويله إلى "المرشح المُنقِذ" الذي لا غنى عنه، والذي يستطيع فرض شروطه، أو قواعده بالحدّ الأدنى، بشكلٍ لم يكن مُتاحاً له أو لغيره قبل أسابيع معدودة.

ما الذي تغيّر؟!

بمُعزَلٍ عن مدى دقّة مثل هذا "التحليل" الذي يتبنّاه كثيرون، والذي ثبّته الحريري بشكلٍ أو بآخر حين وصف نفسه بأنّه "المرشح الطبيعي لرئاسة الحكومة"، ما يعني أنّه لم يكن يوماً "غير مرشح" بخلاف ما أوحته بياناته المتكرّرة، فإنّ ثمّة من يسأل عمّا تغيّر عملياً، حتى "يجاهر" الحريري بهذه الحقيقة، ويخوض "السباق"، على "حساسيّته".

وفي هذا السياق، هناك من يخشى على الحريري نفسه من الوقوع في فخّ تكتيك "الاحتراق"، إذا لم يكن ترشيح نفسه مقترناً بـ"ضماناتٍ جدية" تلقاها مسبقاً تتيح له عودة "مباركة" إلى السراي، أو أن يتكرّر في أحسن الأحوال، "السيناريو" الذي حصل قبل أشهرٍ، حين أدرك في اللحظة الأخيرة أنّه فاقدٌ للميثاقيّة المطلوبة، فتولّى بنفسه الطلب من رئيس الجمهورية إرجاء الاستشارات، قبل أن يسحب اسمه من التداول.

وإذا كان "العائق الأكبر" في وجه الحريري يتمثّل بوجود "فيتو" خارجي على عودته، وتحديداً من ​الولايات المتحدة​ و​المملكة العربية السعودية​، فإنّ هناك من يعتقد أنّ موقفه "المستجِدّ" يعني بطبيعة الحال تلقّيه "إشاراتٍ" قد تكون "مُطمئِنة" إلى حدّ كبير، علماً أنّ معلوماتٍ يتمّ تداولها عن مساعٍ فرنسيّة تُبذَل لـ "تسويق" اسم الحريري مجدّداً لدى عواصم القرار، باعتباره الوحيد القادر على قيادة "المبادرة الفرنسية" إلى "برّ الأمان"، بعدما كادت تسقط في الهاوية.

وفي وقتٍ توقّف كثيرون عند إعلان الحريري أنّ "شيئاً لا يهزّ" علاقته بالسعودية، ما أوحى بكسر "القطيعة" التي كانت قائمة بشكلٍ أو بآخر بين الجانبيْن، فإنّ هناك من يسأل عمّا إذا كان مثل ذلك سينعكس على موقف "​القوات اللبنانية​" مثلاً من ترشيحه، علماً أنّ ترشيحه كان "يصطدم" برفض "القوات" المُطلَق لعودته، ما يحرمه من "الميثاقية المسيحية" في ظلّ موقف "​التيار الوطني الحر​" الرافض أيضاً لتسميته، ولو كان "غير ممانع" لعودته.

ومع أنّ البعض "استشفّ" تغييراً ما طرأ على خطّ العلاقة بين الحريري و"التيار"، قد يكون "محور رهان" الحريري سواء بكشفه عن "اتصال" أجراه بالوزير الاسبق ​جبران باسيل​، من باب "الاطمئنان" عليه بعد إصابته ب​فيروس كورونا​، أو بإيحائه بمعرفته المُسبقة بالدعوة إلى الاستشارات، فإنّ "المحكّ الأساسي" يبقى مرهوناً بموقف "حلفاء" الحريري المفترضين قبل غيرهم، وهو ما يفترض أن يتبلور في الساعات المقبلة.

هل هو "المُنقِذ"؟!

لعلّ الحريري كان "صادقاً" في إطلالته التلفزيونية الأخيرة أكثر ممّا كان طيلة الأشهر السابقة، خصوصاً حين أعلن بالفم الملآن أنه "مرشح حكماً" لرئاسة الحكومة، بما يناقض كلّ التسريبات الإعلامية السابقة وربما اللاحقة، إذا ما تعطّلت "مبادرته".

وقد لا يكون مُبالَغاً به القول إنّ "خصوم" الحريري كانوا أول "المرحّبين" بهذه المبادرة، هم الذين يمنّون النفس أن يكون الحريري في رئاسة الحكومة، بعد تجربة حسّان دياب "غير المشجّعة"، ومصطفى أديب "المُرّة"، بالنسبة إليهم.

بالنسبة إليهم، وحده سعد الحريري قادرٌ على التخفيف من وقْع "نار جهنّم" عليهم، بعدما ضاقوا ذرعاً بروايات "الحصار الدوليّ" و"المؤامرة الكونيّة"، التي حفلت بها مرحلة "الخصومة" مع الرجل، يوم أتوا ب​حسان دياب​ ورموه في وجه "الشيخ سعد"، قبل أن "يطيّروه" بأنفسهم، وبلا أسف.

لكن، هل فعلاً باتت الطريق معبّدة للحريري للعودة، وسُحبت كلّ "الفيتوات" عليه؟ والأهمّ من ذلك، هل من يعتقد أنّ الحريري فعلاً سيكون "المُنقِذ"، وهو الذي لم يتردّد في مقابلته الأخيرة، في تكرار مواقفه المتمسّكة لا بالنظام بحسب، بل بـ"رجاله" الذين يتحمّلون المسؤولية المباشرة عمّا وصلت إليه الأحوال؟!.